مارشال عراقي

تصاعدت في الآونة الأخيرة الدعوات لأجل الاستعانة بنسخة عراقية لمشروع مارشال، الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي ووزير خارجيتها عام 1947، لإعادة إعمار الدول الأكثر تضرراً في الحرب العالمية الثانية وعلى رأسها ألمانيا واليابان. مثل هذه الأفكار ليست جديدة وقد تم طرحها سابقاً، من قبل الخارجية الأميركية في عهدي جون كيري وهيلاري كلينتون من أجل إعادة بناء بلدان الشرق الأوسط، لما تمثله أوضاعها من تهديد لأمن المنطقة والعالم أجمع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ يتعلق بالمناخات والشروط التي تسمح بنجاح مثل هذا المشروع أو إجهاضه؟
عندما نعود الى تجربة مارشال في ألمانيا واليابان، نجدهما يتمتعان كلاهما ببنية تحتية وتقاليد عمل فعالة فضلا عن مستوى تعليمي عال، تناغم بنحوٍ واسع مع عمليات إعادة البناء والتأسيس في بلديهما، لينهضا مجدداً من وسط الخراب والأنقاض الهائلة لأبشع حرب عرفتها البشرية في تأريخها الحديث. أما الوضع لدينا في العراق فمختلف تماماً عن ذلك؛ إذ قيم اقتصاد الرزق الريعي المتناغم وثوابتنا الجليلة في مجال الغنيمة والشراهة والفرهود، والمعمدة بتدني لا مثيل له في الوعي والتعليم، وسط تشرذم اجتماعي وثقافي متعاظم، حيث القبائل والطوائف وبيارغ “الهويات القاتلة” تسترد مفاتنها وتعقد كونفرنساتها وكرنفالاتها بمباركة حيتان وكتل حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ فلا مجال ولا سبيل أمام مخصصات مارشالنا، غير جيوب وأرصدة هذا الائتلاف الأخطبوطي والذي تعيد تدويره صناديق الاقتراع بعد كل جولة انتخابية.
كل هذه الوقائع المؤلمة، لا تنفي حاجتنا الواقعية لمثل هذا المشروع الاقتصادي والتنموي، لمواجهة الكارثة المحدقة ولعنة الحروب المحلية والإقليمية، التي لم تفارقنا منذ أكثر من نصف قرن. إننا كعراقيين من شتى المنحدرات والرطانات، بأمس الحاجة الى دعم وعون المجتمع الدولي ولا سيما الدول الصناعية والغنية منها، وهي مساعدات تفرضها منظومة القيم والمدونات الأخلاقية والأممية تجاه العراق والبلدان المنكوبة الأخرى بمثل هذه الظروف القاهرة التي تمر بها، بعد الأهوال التي شهدتها في مواجهتها لرأس رمح الهمجية والإرهاب (داعش) والذي يمثل امتداداً لإرث طويل من الكراهة والتخلف والاغتراب عن عالم هجر ذلك الإرث منذ زمن بعيد. نحتاج الى نسخة جديدة من مشاريع لا تعيد إعمار ما لم يكن موجوداً أصلاً، بل الى مشروع أممي لوضع حجر الأساس للبناء والإعمار، يضع نصب عينيه النتائج الوخيمة لوضع ثروات البلد وموازناته تحت تصرف طبقة سياسية فاشلة وشرهة.
مشروع مارشال عراقي يستلزم تدخل واضح وصارم للإرادة الدولية، تكبح حيتان المشهد الراهن وتضع حد لأورامها التي أجهزت على ما تبقى من همم وحيوية المجتمع العراقي ووعيه لمثل هذه الضرورات الجراحية عند المحن، بعدما برهنت الأعوام الـ 14 من “التغيير” على وهن وعجز الإرادة المحلية على التصدي لموجة الغزو الجديدة وفرسانها وعقائدها المميتة. لا بد من الاتفاق المشترك؛ على أن الشروع بذلك لن يحصل مع مثل هذه القوى المتخصصة بتأجيج الثارات الصدئة وإنتاج المزيد من العنتريات والقادسيات ومن ثم المزيد من الامتيازات والإقطاعيات السياسية والمالية لها من دون الناس. إنها خطوات وقرارات لا مناص منها قبل التفكير في اقتفاء أثر المشاريع الرائدة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة