في الموقف من واشنطن

تزامنا وزيارة العبادي لواشنطن والتي حظيت باهتمام كبير من قبل المؤسسات الرسمية وعلى رأسها الرئيس ترامب؛ تصاعدت حدة المواقف من هذه الزيارة، وارتفعت وتيرة النبش بكل ما يتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. العقائديون من جماعة (الموت لأميركا) ومن شتى المنحدرات الدينية أو القومية واليسارية، لن يرضوا مصيراً لبلاد العم سام غير الموت، لذلك يعدّون كل تقارب مع واشنطن بوصفه خيانة لثوابت الأمة أو العقيدة والرسالة الخالدة. ومقابل هذا المعسكر هناك من يجد في الدولة الأكثر نفوذا في التأريخ الحديث، أقرب ما تكون الى الجمعية الخيرية والتي تمنح العطايا والمساعدات من دون مقابل، وما بين هذين المعسكرين هناك طيف واسع من المتذبذبين، والذين تقف خلف مواقفهم ودقلاتهم دوافع شتى. ومن سوء حظ العراق؛ أن مثل هذه القناعات والمواقف هي المهيمنة في بورصة المزاودات السياسية والإعلامية والتعبوية، إذ تنزوي الآراء المغايرة لتلك القناعات المسبقة بعيدا عن مسرح الأحداث والتأثير. هذا الخلل الفاضح في امتلاك سياسة خارجية مسؤولة وفعالة، هو نتاج طبيعي لما هي عليه سياسة البلد الداخلية، حيث الهشاشة والتشرذم وانعدام الموقف الوطني الموحد للكتل المهيمنة، يلقي بظلاله القبيحة والقاسية على الدبلوماسية العراقية المثقلة باشتراطات المحاصصة ومحظوظيها.
كل هذه الاصطفافات والتجاذبات لا تنفي وجود أعداد غير قليلة من العراقيين الذين يميلون الى أن تتخذ سياسة بلادهم الخارجية اتجاهاً مستقلاً، يبعدهم عن مخاطر الانخراط بالنزاعات والمحاور الإقليمية والدولية. وبالرغم مما يتسم به هذا الموقف من حكمة ووطنية وحرص؛ إلا أنه صعب المنال في ظل توازن القوى الحالي، إذ يفرض “عراقيو دول الجوار” مشيئتهم على مواقع القرار في المشهد الراهن، وهذا ما يعرفه جيداً محيطنا الإقليمي والدولي. إن الأمل بامتلاك دبلوماسية تضع المصالح العليا للعراقيين من دون تمييز، على رأس اهتماماتها ونشاطها، لن يتحقق مع قوى وزعامات كل مواهبها تنحصر في فن ترسيخ الفرقة والتشرذم، لذلك سرعان ما سيواجه السيد العبادي بعد عودته من واشنطن سيلاً من القضايا والمماحكات المتخصصة بإعادتنا الى ما رسمته لنا دول الجوار وما بعد الجوار، بوصفنا الخاصرة الرخوة لهذه المنطقة الساخنة.
لن نبتعد كثيرا عن الموضوعية والإنصاف عندما نقول؛ بأننا لا ننتظر من هذه الطبقة السياسية، كي تمنحنا سياسة خارجية مستقلة ورصينة، لذلك سنتوجه بأنظارنا الى ما يجري بين أميركا وروسيا ودول المنطقة الفاعلة والمتنفذة في المشهد العراقي، عسى أن تحصل صفقات تضع أمن المنطقة والعالم نصب عينيها، كي تقذف على أحوالنا شيئاً من التوازن والعقلانية والحكمة. قد تبدو نظرتنا هذه شديدة التشاؤم، لا سيما لمن يتمنى للعبادي النجاح في مهمة وضع سياسة توازن ما بين المصالح الأميركية والإيرانية في العراق، من دون الالتفات الى حالتنا الداخلية المزرية بعد رفقتنا الطويلة لقوى كل مواهبها تنحصر في فن إعاقة بعضها للبعض الآخر. إن الموقف من الدولة الأكثر نفوذا وتأثيراً في عالمنا، لا يمكن أن تحدده مشاعر الحب أو الكره أو المواقف المبنية على أساس آيديولوجي عابر، بل مصالح البلد العليا والعابرة لدبلوماسية “المكونات” حيث أمن العراق واستقراره وازدهاره هو الأساس، كما جرى مع أكثر من بلد وهبته الأقدار الحكمة والجرأة على مواجهة ما يحيط بهم من مخاطر وتحديات..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة