هذه المرة لن نتطرق الى الخسائر البشرية الهائلة والتي تعرضنا لها طوال عقود من هيمنة (المنحرفين) على مقاليد أمور هذا الوطن المنكوب، وتواصلها بعد الزوال الشكلي لسلطتهم الرسمية ربيع العام 2003، والتي ما تزال تلحق أبلغ الأضرار بحاضر ومستقبل الوطن والناس، بل الى الثروات والموازنات الأسطورية التي فرطت بها تلك السياسات المغامرة والرعناء، لا زمن النظام المباد وحسب بل مع من تلقف أسلاب الغنيمة الأزلية بعد الفتح الديمقراطي المبين. أعرب بول بريمر في مذكراته (عام قضيته في العراق) عن موقفه من ممثلي الطبقة السياسية التي تنطعت لمسؤولية إنجاز مهمات مرحلة العدالة الانتقالية (أعضاء مجلس الحكم) عندما قال: (كانت القضية الوحيدة التي حلت بسرعة في مجلس الحكم هي تحديد رواتب أعضائه، حيث توصلت لجنة فرعية الى موازنة…. أبلغت المجلس بأن ما اقترحوه لأنفسهم (25 عضوا) يفوق موازنة وزارة التربية التي تضم أكثر من (325000 موظف). من هنا يمكن اقتفاء أثر القوى والمصالح والعقليات التي تقف خلف الاستنزاف الهائل والمتواصل لثروات البلد وموازناته الانفجارية.
لقد سنت الطبقة السياسية ومنذ اللحظات الأولى لتسنمها مسؤولية مجلس الحكم الانتقالي، منهجاً وأسلوباً وسلوكاً ألحق أبلغ الضرر بالمصالح الحيوية، لوطن انتظر سكانه طويلاً لحظة الانعتاق من قبضة أحد أبشع الأنظمة الدكتاتورية في التأريخ الحديث. لتتوالى القرارات والتشريعات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية في جميع مجالات الحياة المادية والمعنوية. لقد قدموا المثال السيء والقبيح، والذي برر لاحقاً لمختلف سلالات الحواسم واللصوص من التسلل لمفاصل الدولة والمجتمع بكل ثقة واطمئنان، حيث تحولت مؤسسات الدولة وهيئاتها وإداراتها تدريجياً، الى ملاذ للملايين من العاطلين عن العمل، والذين يستلم الكثير منهم رواتباً ومخصصات مجزية مقابل لا شيء، مضافاً إليها حزم من القرارات والتشريعات التي تبرر صرف المليارات من الدولارات على أعداد كبيرة أخرى تحت ذرائع شتى، وغير ذلك من الخطوات التي لم تهدر الموازنات وحسب بل ألحقت أبلغ الضرر بالوحدة الوطنية عبر سياسات التمييز والتي فاقمت من حالة التمترس والتشرذم التي خلفتها لنا سياسات النظام المباد.
على العكس مما حصل على يد هذه الطبقة السياسية المتعددة الرطانة والأطياف؛ كانت مرحلة العدالة الانتقالية بحاجة الى قرارات شجاعة تسترد فيها الدولة الفتية، كل ما يمكن الوصول إليه من ثروات العراقيين المنهوبة من قبل حيتان النظام المباد، مع تقديم المثال الحي من قبل الزعامات الجديدة، في التضحية والإيثار وخدمة الشأن العام والحفاظ على ثرواته وتنميتها، لا تشويه سمعة العراق الجديد بما نضح عن سلوكهم وتطلعاتهم الفعلية من شراهة وطمع وضيق أفق، والذي انتبه إليها مبكراً الحاكم المدني السابق للعراق (بول بريمر) ودوّنها في مذكراته التي أشرنا اليها. إن الموقف من الثروة (اكتسابها ودورانها وتراكمها) هو من يرسم الملامح الأساسية لحياة المجتمعات المادية والقيمية، هذه الحقيقة الغائبة عن سلم اهتماماتنا وأولوياتنا، هي من تقف خلف هذه الفصول الفوضوية والغرائبية في المشهد العراقي، حيث شبكات الثروة والنفوذ ما زالت بعيدة عن الجادة التي أكرمت سلالات بني آدم، عبر الإنتاج والابتكار والإبداع حيث “قيمة كل امرء ما يتقنه” لا ما (يفرهده) من الثروات مجهولة المالك…!
جمال جصاني
مَن وراء نزيف الموازنات؟
التعليقات مغلقة