عيون وعقول جديدة

علينا غسل عيوننا، كي ننظر بشكل آخر
علينا غسل مفرداتنا، كي تغدو المفردة عصفاً، كي تغدو مطراً.
هذه الوصية التي صاغها الشاعر الإيراني بهذا الشكل الواضح والجميل، هي محور دائم لاهتمام الأحرار والمبدعين، من الذين يضعون قضايا الجمال والعيش الحر والكريم للإنسان نصب أعينهم. هكذا اختصر لنا سهراب سبهري الطريق لمشوارنا القصير والخاطف في هذا العالم الذي زادته العيون والعقول والمفردات الملوثة، عتمة والتباساً. الحاجة لـ (العيون والعقول الجديدة) ستظل مرافقة للبشر ولحاجاتهم المتعاظمة أبدا من أجل التقدم والرقي والازدهار. وعلى العكس من ذلك، نشاهده لدى المجتمعات التي تهمل أو تعادي مثل هذه الحاجة الحيوية، وكيف تصبح مرتعا لكل أشكال الأوبئة والأمراض، كما يحصل اليوم على تضاريسنا المنكوبة بأنقاض ونفايات أكثر من ألف عام وعام. لا تتميز عيون وعقول الأمم والمجتمعات التي ارتقت الى ما هي عليه اليوم من تقدم حضاري وازدهار، عما لدينا وحسب بل أن البعض منها أصغر حجما وأقل جمالاً، كما هو حال سكان جنوب شرق آسيا، لكن الفرق أننا ما زلنا لا نتجرأ على غسل ما علق بها من أدران وفضلات، جعلتنا عاجزين عن رؤية ما يحيط بنا، من تحولات وانبثاقات، وبالتالي مواجهة التحديات الواقعية لعصرنا، لذلك تجدنا وليمة دائمة ومفتوحة لآخر مبتكرات الهلوسة والشعوذة والهذيانات المنحدرة إلينا من أكثر مغارات التأريخ عتمة وهمجية.
من دون أدنى شك، لم يكن بمقدور المجتمعات الأوروبية تحقيق كل هذه الفتوحات العلمية والاقتصادية والقيمية، لولا برامج التنظيف الشامل والواسع الذي عرفوه زمن النهضة والتنوير، والتي منحتهم عيون وعقول جديدة، ارتقت بهم الى ما هم عليه اليوم، من أمن واستقرار وازدهار. وهذه المهمة الحيوية لم تتوقف عند جيل معين، وما هذا التطور المتسارع والمتعاظم إلا دليل قاطع على أهمية التجدد المستمر والمتناغم مع ناموس الحياة. ما حصل معنا مغاير تماماً لما حصل مع تلك المجتمعات التي كانت غارقة في عتمة وهمجية القرون الوسطى ذات عصر، إذ لم يمر وقت طويل على خروجنا من أقبية وسجون الامبراطورية العثمانية، حتى استقبلتنا حمامات النفط والرزق الريعي وملحقاته الأخلاقية والعقائدية، والتي منحتنا عيونا وعقولا ومفردات لا تقل تلوثاً وبؤساً عما كانت عليه قبل التعرف على معيلنا الجديد (النفط ومشتقاته).
بالرغم من أن المهمة أصبحت أكثر صعوبة مما كانت عليه، لكنها ما زالت تترقب صعود جيل جديد يتطلع للعيش بعيداً عن هذا الإرث من الأنقاض والأدران الذي هجرته بقية الأمم، كي يمد الجسور الى تلك المحطات المنسية لمآثر أسلاف لهم سخّروا مواهبهم الفذة وأغلى ما يملكون لصنع معاني جديدة للحياة. إن استئناف تلك التقاليد المتوهجة من الشجاعة والجرأة، التي ما زالت تومض من تحت ركام وأنقاض عصور الانحطاط، هي ما نحتاجه بعد استئصال أخطر وأبشع ما طفح عن تلوث وتعفن العيون والعقول، فمن دون التصدي لهذه المهمة، ستبقى الأبواب مشرعة لتسلل قوافل العتمة والهمجية والإجرام ..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة