من يتابع المشهد السياسي لعراق ما بعد زوال النظام المباد، سيصطدم بنوع من المفارقة في النتائج التي تمخضت عنها ما يفترض أنها مرحلة للعدالة الانتقالية الممهدة للنظام الديمقراطي الاتحادي. بلد عانى بشدة من حكم دكتاتوري واستبدادي ورّطه في سلسلة من الحروب العبثية، والسياسات المغامرة والحمقاء، المتنافرة وروح هذا الوطن القديم وسر حيويته وتوهجه؛ أي تنوع ثقافاته وتعدديته وعقلانيته والوشائج الوثيقة التي تميز أهله مع الإبداع والفضول المعرفي؛ يحصد مثل هذا الفشل في التعاطي مع أفضل وسيلة أبدعها البشر لفك الاشتباكات وبناء الدول الحديثة (الصناديق)..؟
في البحث عن علل هذه المفارقة، سنجد أن جزءا كبيراً من ذلك الخلل يكمن في نوع العملية السياسية وقواعد اللعبة التي تم وضعها وفقاً لقياسات محظوظي حقبة الفتح الديمقراطي المبين، وغالبيتهم كما نعرف امتطى المفاصل الحيوية لما تبقى من أسلاب الدولة السابقة، قادماً اليها من المنافي بعد أن أسهم في صناعة أحد أكثر المعارضات السياسية فشلاً في تأريخ المنطقة الحديث. لذلك لم تكن حماستهم الشديدة وعشقهم المفاجئ للمنظومة المنبوذة سابقا في مدوناتهم وخطاباتهم وسلوكهم وحياة “أحزابهم” الداخلية (الديمقراطية وعدّتها من الصناديق والأحبار البنفسجية و..) دليلا على حصول تحولات نوعية في موقفهم منها، وذلك ما برهنته تجربة أكثر من عقد على انطلاق مواسم الاقتراع والاستفتاءات؛ وما تمخّض عنها من حصاد مر، بعد تمكنهم من اعتماد نسخة محورة من الصناديق.
منذ وقت مبكر أدرك غير القليل من معارضي النظام المباد، واقع هشاشة وضعف أحزابهم وتنظيماتهم السياسية، ودور ذلك في رفد الدكتاتورية بما تحتاجه لمواصلة بسط هيمنتها، كما أدركوا أيضاً استحالة حصول تحولات نوعية لبنية تلك الأحزاب والجماعات في المنافي. لذلك ظل الأمل معقودا على فرص العودة للوطن، كي تلتقي الروافد السليمة لترسم ملامح مرحلة جديدة لعراق جديد خالٍ من كل أشكال الدكتاتورية والاستبداد. لكن وبسبب من التحولات الدراماتيكية والمتسارعة إقليميا ودولياً، تم إزاحة سلطة الاستبداد عن طريق المشرط الخارجي وفي ظل شروط خاصة، اتاحت لتلك الأحزاب والقوى التي تعفّنت في المنافي، أن تلتقي بنوع من القوى في الداخل لا تختلف عنها كثيرا في السلوك والضجيج والغايات، ليسدا الطريق أمام التطور الطبيعي للأحداث، عبر إجراء انتخابات واستفتاءات سريعة، يتم فيها القفز على ما يطلق عليه بالمرحلة الانتقالية تحت إشراف المجتمع الدولي ومؤسساته المتخصصة في هذا المجال. بسبب من شراهة وضيق أفق تلك القوى التي تلقفت مقاليد الأمور بعد “التغيير” أهدرت فرصة تأريخية لا تمنحها الأقدار كثيرا للشعوب والأمم، كما قدمت مثل تلك السياسات البعيدة عن الحكمة، خدمات لا تقدّر بثمن لقوى الردة والواجهات الجديدة للفلول، وهذا ما يمكن ملاحظته في كل مناحي الحياة للأعوام التي مرت على زوال النظام المباد. ان ارتفاع الأصوات المطالبة بتغيير المفوضية المستقلة للانتخابات، يمثل بداية للوعي بأهمية تحرير الصناديق وإعادتها لمسارها الطبيعي ورفدها بالتشريعات اللازمة والملاكات القادرة على إدارة تحولات نوعية صوب الديمقراطية، وهي بالتأكيد لن تفلح في مساعيها من دون وجود قانون للأحزاب يضع نصب عينيه مهمة تأسيس أحزاب سياسية تقود العراقيين الى المستقبل والازدهار لا الى الماضي والتشرذم والانحطاط..
جمال جصاني
الصناديق المحوّرة
التعليقات مغلقة