علوان السلمان
القص القصير: (نص جامع للنقيضين في وقت واحد، اذ أنه موغل في الذاتية، موغل في الموضوعية) على حد تعبير شكري عياد، انه فن ادبي اداته اللغة واسلوبه الحوار بلغة موحية والفاظ بعيدة عن الغموض والضبابية،مع اعتماد التكثيف والاختزال والايجاز الجملي على صعيد الفكرة. وهذا ما ارتكزت عليه المجموعة القصصية(عندما يهتز الجسر طربا) التي نسج عوالمها القاص عبدالله حرز البيضاني، واسهمت مؤسسة ثائر العصامي في نشرها وانتشارها/2021.. كونها تكشف عن تركيز ذهني وذاكرة متقدة باتكاء منتجها على عناصر القص(المكان بشقيه المغلق والمفتوح والزمان والشخصية الرئيسية والثانوية وزاوية الرؤية والحدث، فضلا عن توظيف الافعال الحركية والحوار الذاتي والموضوعي الكاشفان عن دخيلة الشخصية، المنسجم ببنائه الرمزي المؤنسن، المنفتح على باب التأويل بدلالاته التعبيرية واشاراته الايحائية التي تحيل الى حالة نفسية من جهة ودلالة اشارية الى المتن النصي من جهة اخرى..
(وبينما هو غارق في اجترار الماضي.. شعر بيد تربت على كتفه، جلس بجانبه. كان في الخمسين او يزيد قليلا. جلس صامتا يقلب صفحات وجه الشاب، يحدق به بإمعان شديد. ظل الشاب مبهوتا وهو يحدق في الرجل، كان يتوقع ان يخرج الناي ويوقظ النهر من نومه، لكن ظل صامتا، يتأمل حبيبات الرمل الرمادية وهي تنجرف بفعل الموجات الصغيرة التي تدفعها بلطف نحو جرف النهر..عيناه الجاحظتان تريد ان تقول شيئا. مد يده نحو جيبه أخرج الناي..قدمه الى الشاب..قال بصوت ابح(بني لقد وجدت في داخلك نغما يافعا، منذ ان كان خيالك يلاحقني ويملأ فضاء النهر. كنت انت النغم الذي استنشقه كلما انظر اليك وانت تعتلي موجات النهر..كنت اشعر فيك طوال المدة التي كانت انغام الناي تداعب خوالج قلبك. كنت اراك في داخلي وترا يملأ جسدي المنهك)..صمت قليلا، ثم اردف قائلا: اليوم باتت شفتاي لا تقوى على حمل الناي وامسى النغم يلفه الموج. يخنقه. يموت في قاعه المظلم. أنقذه من الغرق..اجعل من صداه حورية تعتلي الموج لترقص على نفثات الناي الجديد) /ص11ـ ص12
فالقاص يلتقط اللحظة وعوالمها المشحونة ليرسمها على نافذة ادراك مستهلكها فيتأملها محركا خزانته الفكرية محللا اياها ومتأملا ومؤولا لها، بتخطيه المشاعر
الى وصف الانفعالات والاحاسيس، ليكشف عن المسكوت عنه بتوظيف السيميولوجيا (علم العلامات او الاشارات او الدوال اللغوية او الرمزية) لتغطية الجوانب المؤطرة للحدث بتكثيف العبارة والتفاعل مع الاشارة الجمالية، فضلا عن توظيف عنصر الحركة الذي شكل احد معطيات المستوى الحسي للغة النص التي اتكأت على مهارات الاخيلة في تركيب بنائي ولغة موحية بشاعريتها، مع اقتصاد في الالفاظ واعتماد دينامية حركية غائرة في عمق الحدث الذي يجسد عنصر الفكرة المجردة،مع تدفق شعور الذات المتداخل والحدث السابح في زمكانية بحوار ذاتي متناغم والفكرة بوحدة موضوعية محكمة البناء.
(في تلك الليلة حزم امره وانطلق فوق عربته الخشبية التي يجرها الحصان عبر الاوحال والبرك المائية الصغيرة التي احدثها المطر يوم امس.. أخذ طريقه عبر الممرات الضيقة التي ارتصفت عشوائيا على جانبيه بيوت بنيت من البلوك والطين هذا الحي، وجد نفسه دون ارادته، يرتع ويلعب بين طرقاته الملتوية الضيقة.
عندما اشتد عوده اصطحبه والده..يتذكر ذلك اليوم الذي جلس بجانب ابيه. وكيف غامره ذلك الشعور باللذة وهو على ظهر العربة الخشبية التي يجرها الحصان..أخذته مناظر البيوت العالية وحدائقها التي تدلت من على اسيجتها ثمار الرارنج. كانت لحظات لا تنسى، ظلت عالقة في ذهنه..) ص70ـ ص71…
فالنص يطرح تجربة حياتية بطريقة درامية،حوارية،تتأرجح ما بين ضمير المتكلم(الانا) وضمير الغائب(هو) وما بينهما تسير عوالم النص عبر منولوجية تكشف عن دخيلة الشخصية الساردة ودوافعها النفسية،اضافة الى اعتماد المنتج تقنيات فنية واسلوبية كالاستباق والاسترجاع والتذكر والتنقيط الذي شكل وسيلة تعبيرية ترمز للمحذوف من القول الذي يستدعي المستهلك(المتلقي) لملأ فراغاته. اضافة الى اعتماد الاختزال في الوصف لتقديم مشهدية تأملية خارج نطاق الذات بلغة موحية،متجاوزة حدود الزمكانية والوصفية الاستطرادية لتحقيق التماهي وعوالم النص..
(الشمس على وشك ان تغسل بقايا الظهيرة، وقيظها الدبق يذوب بين جزيئات الهواء الساكنة..وما زال صيده فقيرا الا من اسماك صغيرة مركونة في احدى زوايا الزورق. الطائر مازال في تحديه واقفا كأنه سارية بيضاء مغروزة في فنار ضائع في وسط الهور المترامي. فجأة طار الطائر الابيض فارشا جناحيه بتوازن وكبرياء ليبق مزهوا في الفضاء الوسيع كنقطة بيضاء تلاشت في كبد السماء..) /ص50..
فالبناء النصي يتوزع ما بين السردية والاقتراب من الاداء الدرامي والشعري لغرض تفجير الطاقة الكامنة في التجربة الانسانية من خلال ابراز عنصر الصراع في حركة جدلية،بالاتكاء على الحوار الذي اسهم بشقيه(الذاتي والموضوعي) في الارتقاء بالنص ونمو نسقيته الحكائية مع تغيير ايقاعاته المشهدية بلغة مرنة تغلب عليها الاساليب الفنية والصور المجازية فالارتقاء بها الى التخييل..
وبذلك قدم القاص نصوصا اتسمت بسمات فنية وجمالية مع (تذويب الذاتي في الموضوعي) والتركيز على الوجداني بلغة مشحونة بشحنة عاطفية، تأثيرية.