محمد زكي ابراهيم
ما يميز أي بلد عربي عن آخر، هي الثقافة الفرعية، أو المفاهيم وطرق التفكير والواقع الاجتماعي والاقتصادي. وهي قيم متوارثة من أزمان بعيدة. تحول دون أي نهضة عربية حقيقية، وتخلق علاقات متشنجة وازدراء متبادلاً وكراهية، وتمنع الناس من الانسجام مع بعضهم البعض. وقد حدث في الدول التي نالت استقلالها منذ أكثر من نصف قرن، أن تجذرت هذه الثقافات، وازدادت رسوخاً. حتى باتت الخلافات كبيرة وهائلة. ولم يقتصر الأمر على الدول ذاتها، بل امتد إلى المدن والأقاليم أيضاً داخل الدولة الواحدة. والأمثلة كثيرة في العراق والسعودية واليمن والمغرب وغيرها.
ومادام هذا التنافر قائماً، فإن من العسير أن يكون هناك انسجام في المواقف. بل أن الهوة تزداد اتساعاً بمرور الوقت. ومن الصعب في حال كهذه الحديث عن نهضة محتملة، وهي الهدف الأساس لأي ثقافة. فاحتمالات التباعد، والصراعات، والحروب، هي الأقوى من التقارب، والتعاون، والمحبة.
إن الحل الأمثل لهذه المعضلة هو التغيير السكاني، أو إعادة دمج المكونات مع بعضها، لتكوين نسيج اجتماعي جديد عابر للخلافات والثقافات والمواقف. يتناغم مع بعضه بمرور الوقت، ويندمج مع نفسه بتوالي السنين. وليس هذا بالأمر الغريب. فالهجرة الداخلية لم تتوقف في يوم من الأيام حتى في أحرج الظروف. ولم تفلح الحروب الأهلية في الحد منها، إلا بشكل مؤقت. فهي من الظواهر الإنسانية الشائعة في كل زمان ومكان. والمرء مجبول على الانتقال حيث يجد رزقه وأقرانه. فالعاصمة بغداد مثلاً هي ملاذ آمن لكل الفئات الاجتماعية العراقية التي عانت من هجرة مستمرة من الشمال إلى الجنوب. وحتى الهجرات القسرية التي تحدث بسبب الحروب أو الوضع الأمني ، تصبح بمرور الأيام، خياراً دائماً. لأن التكيف سمة غالبة على الجنس البشري.
وكان هناك في ما مضى مدن صناعية وأقسام داخلية يطلق عليها أحياناً اسم قدور الصهر. لأنها تقوم بمهمة تذويب الفوارق بين الجماعات. وحينما تولى ساطع الحصري مهمة إدارة التعليم في الدولة العراقية عام 1922 أغلق دور المعلمين الموجودة في البصرة وكركوك والموصل، ونقل طلبتها إلى بغداد ليعيشوا في دار واحدة، وقسم داخلي واحد. وكانت غايته من ذلك دمج أبناء المدن العراقية النائية مع بعضهم البعض. في وقت كان الانتقال فيه بين مدينة وأخرى عملية شاقة تحتاج إلى جهد ومال. ولا يشكل التغيير السكاني معضلة ما في البلد الواحد، رغم أن الذين وقفوا ضده كثيرون. لأنه عملية ثقافية تهدف إلى توحيد الرؤى والأفكار، وتذويب الفوارق والاختلافات.
يجب أن لا نتضايق من فعاليات كهذه لأنها تعني تكريس الوحدة الوطنية، وإلغاء الثقافات الانعزالية، وإنتاج أجيال جديدة قادرة على فهم معنى المواطنة بشكل صحيح وعملي. أما الخطب الرنانة التي تلقى هنا وهناك فهي لا تنفع ولا تضر، ولا تغير من الأمر في شئ. لأنها ليست سوى جعجعة بلا طحن!