نداء الذاكرة

أحمد العكيدي
قبلت ناصيته وهدهدت وجهه وتلمست الكدمات تحت عينيه وعلى رقبته. شاحت ببصرها نحو بطنه؛ فلمحت أثار ضربات وركلات. لملمت جراحها وقاومت عبراتها وخرجت متسللة من بين الحشد.

سمعت همسات:

  • ألم يكن خطيبها؟

تجاهلتها ومضت، فطرقت أخرى أدنيها:

  • ما كان لها أن تغادر؟

رمقتهم بنظرات هازئة وابتسامة ساخرة، ثم ضحكت ضحكة أخيرة هاربة؛ فازدادت نقمة بعضهم، وحنق آخرين، وحيرة من تبقى.

  • كانت هي السبب، هتف أحدهم من بعيد.

هنا التقيا أول مرة، انسلت؛ فوجدته مصرا، صرخت في وجهه؛ فلمس يدها برفق زال معه التحفظ، مطت شفتيها غاضبة؛ فرماها بابتسامة حالمة، هم بحضنها؛ فانسلت هاربة، أشار لها من بعيد ووضع لها كتابا تحت تلك الشجرة ورحل مبتهجا. 

 …لعلي بهذا الكتاب أصبو إلى معالجة أسباب حيرتك، وتساؤلاتك المتواترة، وقلقك الكبير بشأن غاياتي وأحلامي..

تنهدت، ارتبكت، ارتعشت كل جوارحها، سكنت اللوعة والشوق أعماقها، اجتاحت جسدها الممشوق موجة من الألم الحارق، اهتز قلبها كأنه يريد اختراق صدرها. نظرت إلى النهر وتأملت مياهه الدافقة.  بلعت ريقها، واسترجعت همس كلماته وهو يئن تحت حفلة العنف تلك: 

  • أهربي.

اختبأت في ركن قصي، وتابعت المشهد حتى خبئ وجودهم، حدقت في زيهم الرسمي وعصيهم المتدلية بجانبهم…

…لقد كنت أراقبك من بعيد وأنت تعبرين الطريق إلى الكلية، وحين تمرين بجانب الزقاق، وأنت تشرقين بإطلالتك البهية على الشارع من نافذتك الزهرية، وعندما تداعب تيارات الهواء المسائية شعرك الذهبي؛ فيرتد فوق كتفيك وتتمايلين في حركة رقيقة تهز كينونتي..

امتلأت مقلتيها بالعبرات وانسكبت أنهارا واختلطت بدمائه الجارية فوق الإسفلت، تلمست دقات قلبه المتباطئة بشكل خطير وتحسست أنامله وتأوهت أهات تحمل معها عذبات.

…عرفت عنك الكثير؛ طباعك، ما تحبين وما تكرهين، مغامرتك السابقة التي لا تعنيني، حزنك الكبير على أم غيبها المرض ومعاناتك مع أب مستهتر تقوده نزواته إلى أسوئها. اعلمي أنني محب عاشق، جرفني سيل الهوى إلى مصبك، ولا تهمني أقوال الناس القاسية عنك..

تمايلت وأمسكت جانبها الأيسر لما رأت المسافة المهولة التي تفصل النهر والقنطرة التي تقف عليها، تشجعت وصعدت فوق حاجز الأمان الحديدي، الذي أقيم لحماية المارين من السقوط، وانتصبت ثم أمسكت بأحد الأعمدة.

… بدون شك، تعلمين من أنا، لطالما صدحت في فناء الكلية وفي المدرجات بالحرية والعدل، لا بد أن يكون قد وصلك صدى  بعض هذه الأحلام التي أمنت بها وما زلت..

همت بالقفز فأمسكتها روحه وأوحت لها: بالحياة نتحدى الموت، ثم قرأت جملته الأخيرة:

…أقدر حزنك الشديد على فقدان أخيك الفاضل لكنني أعتقد أن تحقيق بعض ما كان يصبو إليه أفضل من الموت بعده غما وكمدا. لعلي بخطبتك من أبيك غدا، أبتغي حبا أسطوريا تمتزج فيه سمفونيتي الموت والحياة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة