انتصاراتنا على داعش والخلل الاستراتيجي
كتب رئيس التحرير
ما ظهر من مشهد حربنا مع داعش ليس سوى قمّة جبل الجليد .. وهذه القمّة تضمنت الكثير من الحقائق والوقائع جرى الحديث عنها وتغطيتها على امتداد السنوات المريرة من وجود الظلاميين وأتباعهم. أما القسم المتبقي وهو الأكبر من جبل الجليد فهو لا يزال غير مغطى بعناية ولا سيما في وسائط الإعلام والفضائيات والمؤسسات البحثية التاريخية المتخصصة. ويشتمل ذلك القسم على أسرار كثيرة وتفصيلات مثيرة تتصل بكيفية تعامل الأطراف العربية والدولية معنا في الوقت في ما يتعلق بالتسليح والتنسيق والتخطيط.
وفي هذا السياق يتحدث الفريق الركن طالب شغاتي عن أول استلامه مسؤولية غرفة العمليات المشتركة الى جانب منصبه كرئيس لجهاز مكافحة الإرهاب. يقول إن رئيس الوزراء المالكي اتصل بي وكلفني تحمل المسؤولية المذكورة في أعقاب الوضع المتدهور في نينوى وانفلات السيطرة على القطعات وصولاً الى سامراء ومصفى بيجي. وبعد تحركنا الى المنطقة اكتشفنا أن الداعشيين نشروا حالة من الذعر المنقول عبر الفضائيات والإعلام بين القطعات العسكرية العراقية الى درجة تهدم فيها سلّم التراتبية والضبط والربط ولم يعد أفراد القوات الكبيرة التي كانت في المنطقة قادرين على تنفيذ الواجبات مهما كانت صغيرة أو محدودة. لكنه أكد أن تقديراتنا الميدانية كانت تؤشر الى أنه خلف هذه المناخات المتخاذلة حاجز مزيف ومبالغ فيه علينا أن نزيله للسماح لقواتنا بتجديد الثقة بنفسها وذهابها الى تنفيذ الواجبات المنتظرة.
وأكد شغاتي على أن الكتلة العسكرية المتماسكة أول الأمر كانت قيادة وأفراد جهاز مكافحة الإرهاب، وذلك لأنها كانت على درجة من اتقان التدريب والكفاءة والتماسك والتنظيم المبني على حقيقة ان تلك القوات هي قوات عراقية بالمعنى الواسع لم يدخل النفس الطائفي ولا سمح لدخول غير المستحقين وغير القادرين وغير المدركين الى قوامها. فالمرء لم يكن قادراً على تشخيص أي مستوى يشم منه الطائفية والتمييز القومي وما الى ذلك من أمراض تسللت الى الجيش من التركيبة السياسية المستقطبة أساًساً على تلك الأسس.
وقبل ان نتحول في قيادة غرفة العمليات المشتركة الى برامج التجميع استعملنا أنموذج مقاتل جهاز مكافحة الإرهاب كرافعة نفسية وسايكولوجية لبقية القطعات وعلى الأرض وفي ميدان المعركة. وأول درس تعلمه المقاتلون ما سطّره جهاز مكافحة الإرهاب على الطريق الى سامراء إذ تولى الشهيد فاضل برواري قيادة جحفل خاص انطلق من بغداد لمنع تطويق سامراء واحتمال إسقاطها بيد داعش. وقد واجهت القوة مقاومة شرسة من قطعات داعش بحيث تعذر عليها التقدم نحو سامراء. ووقتها تراجعت القوات التي أرسلتها قيادة الجيش لدعم التقدم وعادت الى بغداد. ولكنني، يقول الفريق شغاتي أبلفت الشهيد فاضل أن: لا تراجع مهما كلف الثمن وان القوة ملزمة بالتقدم ومواجهة الإرهابيين حتى لو بقي منهم رجل واحد يزحف على قدميه. وفعلاً اتصل بي برواري بعد ساعتين وأبلغني انه يتحدث من سامراء التي وصلها بخسائر قليلة.
هذه العملية سمحت بتطويق الزحف الإرهابي نحو بغداد وإعادته الى الخلف وإنقاذ سامراء ومناطق المحافظة من السقوط بيد داعش. كما أنها شجعت بقية القطعات العراقية الى اتباع خطانا والعمل بثقة أكبر والتقاط بقية القوات أنفاسها وهي تسمع أنباء النجاحات التي تحققت.
بعدها لجأت قيادة جهاز مكافحة الإرهاب الى تطعيم القوات والأفواج العراقية بتنظيمات وتشكيلات من مكافحة الإرهاب في عدد كبير من المواقع. وارتقى هذا الأمر بمستوى الممارسة والمعنويات وأعاد الى قطعاتنا ، فضلا عن أسباب أخرى، الإحساس بثقل المهمات وبحساسيتها. ولمسنا بعد أسابيع على انهيار الموصل في الرابع عشر من حزيران أن الروح بدأت بالعودة الى قطعات الجيش العراقي بل تجددها.
ومضى الفريق الركن شغاتي قائلاً: لقد قاتلنا على المستوى العسكري ونحن نشعر ان البداية الصحيحة لا يمكن أن تأتي إلا من العراقيين وحدهم، وفعلاً أنجزنا ذلك ولكننا كنا نشعر بقلق بالغ بسبب المخاوف من أن تكون مواقف الحلفاء والأصدقاء أضعف وأقل مما كنا نحتاج وننتظر. وتعاظم ذلك الهاجس بعد ان عبّر الأميركان عن نزعة تراجعية لم ترغب في تطبيق التزاماتها تجاه بلدنا في تلك الساعات الحالكة. وشعرنا ان الجانب الأميركي نشر أفكاراً على المستوى الدولي تشير الى ان الاحتلال الداعشي سيكون مؤبداً أو طويل الأمد في العراق في أقل الاحوال. وأن المعركة مع الظلاميين ستستغرق عشرات السنين. ولكننا تحديناهم ميدانياً وأثبتنا ان الأمر مع داعش والعراق لا يتجاوز كبوة سينهض منها بلدنا في وقت سريع. وطلبنا منهم ان يأتوا معنا الى غرفة العمليات وان يشهدوا على طبيعة العمليات ثم يحكموا على الأمر ويقيموا مجهوداتنا. وفعلاً طرأ تغير كبير على المواقف الأميركية بعد وقت قصير على وقوفنا بوجه داعش. وتجلى ذلك في إدامة المظلات الجوية واستمرار تزويدنا بحاجاتنا من الذخائر والمعدات التقنية اللازمة لمعركتنا التي زادت تعقيداتها ومتطلباتها.
لقد كنا نقاتل عصابات محدودة تلقت دعماً من بعض الشرائح المحلية في البداية ولكننا مع استمرار المعركة اكتشفنا ان لداعش حلفاء أغنياء وملتزمون بتسليحها بأحدث أنواع الأسلحة. وواجهنا مجموعة من الذخائر الخطرة التي لا تمتلكها جيوش عديدة ومنها طلقات تخترق الدروع على كفاءة عالية مما سبب لنا قلقاً كبيراً كما واجهنا تمويلات لا تنتهي لداعش من قبل بعض الأطراف الإقليمية التي كانت وكأنها انتظرت سقوطنا وانهيارنا طويلاً والآن حانت ساعة الانتقام منا.
ومع ان جهاز مكافحة الإرهاب أحد الأذرع الحاسمة في أي معركة في الماض او في المستقبل إلا ان التعاطي معه من قبل الحكومة العراقية يثير الدهشة. فهو وان كان مستقلاً عن أي وزارة إلا ان رئيسه يعتبر بمنزلة وزير في منصبه. ولكنه محروم من المعدات والحاجات الملحة التي يحتاج اليها. ومن المثير للدهشة ان جهازا بمثل هذه الحساسية يفتقر للطائرات بكل أنواعها، وهي أسلحة ومعدات أساسية في تنفيذ الواجبات المتممة للجهاز. ولا نعرف تفسيراً لذلك ولا سيما ان التجربة العالمية في التعاطي مع أجهزتها لمكافحة الإرهاب تشير الى إيلائها الأهمية القصوى في سلم الترتيبات العسكريةالميدانية. بل ان دولا عديدة تعدها وزارة مستقلة بذاتها ولها ميزانية توازي ميزانية بقية التشكيلات.
ان الفضل الكبير في اللحظات الحاسمة في معاركنا من أجل سلامة الوطن قام بها هذا الجهاز ولكن عندما يتعلق الأمر بميزانيته ومعداته تتبارى بقية الصنوف في إضعافه والتقليص من إمكانياته. وغني عن القول ان أي جهاز لمكافحة الإرهاب يحتاج قدرة عالية على التنقل والتحرك والحاجة الى القيام بعمليات إنزال عاجلة هنا أو هناك.
ولعل هذا الواقع المريض يترجم نقصاً خطيراً في العقيدة العسكرية العراقية، هذا إذا لم نقل غياب مثل هكذا استراتيجية. فوجودها يمكن ان يحدد سياساتنا التسليحية ومفهومنا لمبادئ الدفاع عن الوطن وسيادته. ان تعاقب الحكومات العراقية كرس حقيقة مشتركة هي إجماعها على عدم الاهتمام بوجود مثل هذه العقيدة. بل ان الخوض من قبل سياسيين وكتل حول الأمور الاستراتيجية يرسم ما يمكن ان نصفه بخبط عشواء وانعدام المعرفة والوعي او التسابق لتلبية رغبات قوى إقليمية ورغباتها ومواقفها أكثر منه رغبة أو حاجة العراق الى سياسته الخاصة واستراتيجيته المتصلة لصورة العراق السياسي.