عندما كنا في المنافي اهدتنا الصدفة والأقدار الرحيمة “معلم” من طراز خاص، هو الشخصية الوطنية الكبيرة وابن الموصل البار عبد الرحمن القصاب (رحل عنا في 9/9/2001 في دمشق). هذا المناضل الانسان ساعدنا بخبرته وحكمته، على تجاوز ومواجهة مخاطر وتحديات مثل تلك المنافي والتي امتدت بنا لأكثر من ربع قرن. أتذكر احدى أبرز نصائحه التي كان يخص بها شريحة الشباب منا، حيث الحماسة والعنفوان والاندفاع الشديد للانخراط بالنشاطات الثورية لتأسيس البدائل عما تعفن من تنظيمات المعارضة العراقية آنذاك؛ كان يوصي بالتريث وعدم الانجرار لمثل تلك المغامرات، ويحذر من تداعياتها وعواقبها، ويوصي القريبين منه بالحفاظ على أنفسهم والانتباه لمحاولات التنظيمات التابعة للدول “المضيفة” لتجنيدهم وبالتالي تسخيرهم لخدمة مصالحها القومية المتنافرة والاسباب التي دفعتهم للعيش بعيدا عن أوطانهم. كان حريصا على أن نعود الى اوطاننا غير ملوثين ومدججين بالمصداقية والخبرة والوعي وما يتجحفل معها من مستلزمات لاستئناف الكفاح والنشاط من اجل الحرية والكرامة. رحل المعلم الفذ بصمت يليق بسيرته المتوهجة في زمن هو الاكثر عتمة وقبحاً في تاريخنا الحديث، لكن وصاياه النفيسة لم تفارقنا أبداً.
كي نتمكن من فهم جزء ضئيل من عتمة وغرائبية المشهد العراقي الراهن؛ لا مناص من تتبع أمر حقيقة “القرار” والجهات الفعلية التي تتحكم به. عندما هلك النظام المباد وفرت قطعانه وفلوله، تسللت الى ما تبقى من أسلابه واقطاعياته السياسية وحطامها البشري والقيمي، نوعاً من الجماعات تعفنت غالبيتها في المنافي ومناطق الشتات، حيث تورط الكثير منها بعلاقات التبعية لدول الجوار وما بعدها تحت ذرائع شتى، ومثل هذه الفواتير يقتضي تسديدها، وهذا ما يمكن مشاهدته فيما جرى بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ حيث تعجز اقوى الميكروسكوبات الالكترونية في العثور على مواقف وقرارات يتم اتخاذها انتصارا للمصالح العليا لشعوب هذا الوطن المنكوب. ما نشاهده اليوم من فشل وهزائم متتالية وعجز عن تقويم وتغيير واقع حالنا المتدهور؛ يعود في الكثير منه الى ما اشرنا اليه من سلب ممنهج للقرار والارادة الحرة، والتي وفرت المنافي وبلدان الشتات القسم الاكبر من شروطه ومناخاته الملوثة، هذا الحصاد المر خارج الوطن، وجد بما خلفه النظام المباد من حطام البشر والقيم، كل ما يحتاجه كي يهدينا هذا الافلاس الشامل الممتد الى تفاصيل حياتنا (افرادا وجماعات مجتمعا ومؤسسات دولة).
لقد مهدت سياسات النظام المباد التوليتارية (سحق التعددية والكرامة والحريات) الطريق؛ امام هذا النوع من الخيارات ومخلوقاتها المستلبة الارادة والقرار أو ما اطلقنا عليه بجماعة (أمرهم مو بديهم) حيث يرتفع منسوب الحماسة عندهم وينخفض وفقاً للذبذبات والفرمانات القادمة من خلف الحدود. وعندما يستلقي هؤلاء على سنام السلطات في هذا البلد المستباح، يمكننا تخيل نوع الادارات والملاكات التي توضع على باقي المستويات (في الدولة والمجتمع) وفقاً لمشيئة واردة من لا مشيئة وارادة له..؟! وهذا ما يمكن التعرف عليه بوضوح عند مفترق الطرق وعند الاحتكاكات المفصلية لهذه الجماعات ببعضها البعض الآخر، عندما يضع “الغير” حداً لمثل تلك الفزعات الصاخبة والعابثة. طبعاً هذا لا ينفي وجود حالات محدودة ويائسة؛ للتمرد على هذا الواقع المرير، لكنها تصطدم بما آل اليه حال هذه التجربة الفتية من “العدالة الانتقالية” بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على تلقف هذه الطبقة السياسية المسلوبة القرار لمقاليد الادارة والقرار..!
جمال جصاني
أمرهم مو بديهم
التعليقات مغلقة