استطلاعات وجوائز

كما هي الاحوال في سنام السلطات العليا والميادين الحيوية في الدولة والمجتمع، لعراق ما بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين، كذلك هي في المجالات المتفرعة عنها في الحقول المادية والقيمية، حيث المناخات والشروط الطاردة لكل ماهو مغاير لعصر الحوسمة الشاملة. وهذا ما انتبهت اليه المنظمة الاممية (الشفافية الدولية) لتحجز لنا موقعاً متصدراً لقعر قائمتها في هذا المجال، والذي حققنا فيه فتوحات لم يسبقنا لها بلد من قبل، منها على سبيل المثال لا الحصر نوع استثماراتنا وابتكاراتنا في الوسائل الحداثوية للمعرفة والتحفيز على الانجاز في هذه الموهبة (الفساد) الا وهي اجراء الاستطلاعات ومن ثم اقامة حفلات توزيع الجوائز على المبشرين بها، من محظوظي مرحلة العدالة الانتقالية (في الانتخابات أو الاستطلاعات). جوائز واستطلاعات وما يتجحفل معها من وسائل وتقنيات وافدة، انخرطت جميعها في كرنفالات الفساد واضعة نصب عينيها مهمة تجسيد وتمثيل ما انحدرت اليه قطاعات واسعة من المجتمع (افراداً وجماعات) من ناحية الذائقة المتدنية، وبؤس الاهتمامات، وضحالة الوعي، وسقم المعايير. لقد تناغمت هذه الوسائل (الاستطلاعات والجوائز والجهات التي تقف خلفها) مع حاجات ومتطلبات مرحلة التشرذم والركود، لتتحول الى حلقة اضافية في هذا النفق المعتم في تاريخ العراق الحديث.
وكما هو حال نجوم مرحلة التردي هذه، من شتى الملل والمهن والنحل (سياسيون وسدنة ونقابيون واعلاميون..) وغير ذلك من مهن يفترض انها وجدت من اجل الابداع والابتكار وصناعة الجمال وخدمة الشأن العام، وصاروا الى ما هم عليه اليوم من حال واحوال وادوار ووظائف متنافرة تماماً وذلك، كذلك هو حال من تنجذب اليه مجسات استطلاعات وجوائز وكرنفالات هذا الزمان، والتي وصلت اليه بعد حفريات عميقة وممنهجة..! هذه هي خارطة الطريق الذي لا يمكن لتلك الجوائز (مدفوعة الثمن) أن تشذ عن جادتها ومقاصدها المرسومة سلفاً. مثل هذا الطفح من النشاطات والفعاليات والاحتفالات تعد مكملة للمشهد الغرائبي الراهن، حيث التواطؤ السافر بين حيتان هذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة وبطاناتها وذيولها وقطعان حبربشها، وما أكتنزته جماعات الفلول من خبرة وتقنيات ودهاء في هذه المجالات الحيوية. لقد تم افراغ هذه الوسائل والتقنيات من مضامينها وغاياتها الحداثوية والمهنية لصالح رغبات وذائقة طبقة سياسية تقبع في قعر اولوياتها كل ما له صلة بالحداثة والتنمية وسن التشريعات التي تنتشل هذا الوطن المنكوب واهله من هذه القسمة العاثرة.
ان آخر ما نحتاجه ونحن نتخبط بنفق طويل من الهزائم المتتالية وعلى شتى الصعد؛ هو الجوائز واستطلاع عينات من شارع “مضيع صول جعابه” ونخب كل مواهبها تنحصر في ممارسة الدقلات ونقل عدتها من كتف الى كتف آخر من دون أدنى وجع من عقل أو ضمير. اتركونا بحالنا رحمة بما تبقى لنا من كسرة حلم وحس وعقل ومسؤولية تجاه هذا الوطن المنكوب بمسوخ العقائد والبشر؛ فحالنا واحوالنا الراهنة لا تتحمل المزيد من مثل هذه المهازل وأشباه القادسيات والفتوحات الفاشوشية. نحتاج الى مجالس عزاء من نوع آخر، مجالس لا ترتفع فيها أصوات النحيب والعويل وغير ذلك من سكراب العواطف التي ما انتصرت يوماً لمن حاولت السماء تكريمه ذات عصر؛ نحتاج الى مجالس للصمت نلتفت فيها قليلاً الى علل اغترابنا الطويل عن كل ما يستحق التقدير والتكريم في ميادين الابداع والانجاز لا الجوائز ومهرجانات التتويج التي تحتفي بما اجترحناه من مهازل وهدر للارواح والامكانات والفرص..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة