الشهادة ليست من أولوياتهم

سلسلة من المقالات يواصل الدكتور خليل حسن (سفير البحرين السابق في اليابان) نشرها، في صحيفة إيلاف الإلكترونية تحت عنوان (اليابان من وجهة نظر عربية)، تضمنت الكثير من الخبرات النافعة والدروس والعبر على شتى الأصعدة، حيث يسلط فيها الضوء على جوانب من علل وأسرار تطور وازدهار ذلك البلد. وقد توقفت كثيراً عند قصة إحدى الشركات الرائدة في مجال صنع تلسكوبات فضائية لشركة الفضاء الأميركية (ناسا) وكذلك صناعة ميكرسكوبات لعمليات جراحة المخ. أسس هذه الشركة أربعة إخوة يجمعهم الحب للعلوم الفيزيائية والهندسية، وقد ذكروا للدكتور خليل بأن تحصيلهم الدراسي لم يزد عن الدراسة الثانوية، وعبر مشوار من المثابرة والإيثار ارتقوا الى ما هم عليه اليوم من مكانة وسمعة ونفوذ.
وأكثر ما لفت اهتمامي في المقال هو ما جاء في إجابتهم لسؤال السفير عن كيفية اختيار ملاكات الشركة: “إننا لا نعتمد على السيرة الذاتية أو الشهادات، بل نستضيف المتقدم لوظيفة العمل الى المطعم، فنلاحظ طريقة محادثته وأخلاقيات تصرفه، ومستوى ذكائه الاجتماعي والفكري ومهاراته اليدوية، من خلال استخدامه عصيات الأكل الخشبية، فلم تعد الشهادة من أولويات الوظيفة عندنا…”.
قصة ذلك النجاح ونوع المعايير والقيم التي تقف خلفه، تدعونا لأن نلتفت الى المعايير والقيم والسلوكيات التي تقف خلف كل هذا العجز والفشل والهزائم الحضارية والقيمية التي تعصف بمجتمعاتنا ومضاربنا المنكوبة بوباء العناوين وديباجات التبجيل والألقاب، وعلاقة هذا الطفح الهائل من “الشهادات” وشغف نجوم حقبة الفتح الديمقراطي المبين لاقتناء المزيد منها، كضرورة لابد منها لتسلق المواقع والمناصب الحكومية العليا.
في الوقت الذي ادرك فيه اليابانيون أهمية انتاج الخيرات المادية والمعنوية ودور الابتكار والإنجاز وانتقال الخبرة في ديمومة التقدم والازدهار، هرول العراقيون برفقة أفشل وأفسد طبقة سياسية الى إنتاج وصناعة كثبان من “الشهادات” المتخصصة في شفط أكبر ما يمكن من المخصصات والدرجات الوظيفية والرواتب والامتيازات والايفادات المتواصلة على مدار العام.
يتذكر العراقيون مسرحية شهادة البكلوريوس التي أخرجها البرلمان السابق كشرط لعضويته ومن ثم ملحق الاستثناء الذي فصل خصيصاً لعدد منهم، وهي من القصص التي ستتعرف من خلالها الاجيال المقبلة على نوع هموم واهتمامات حقبة كنا فيها الاكثر فشلاً بين الشعوب والامم. حقبة وصل فيها عدد موظفي الحكومة (عيال النفط) الى أكثر من اربعة ملايين موظف، تشفط رواتبهم ومخصصاتهم اكثر من ثلثي الموازنة سنوياً، من دون الالتفات الى نوع الانتاجية والخدمات الفعلية التي يقدمونها مقابل الاموال الهائلة التي يتقاضونها مقابل ذلك.
اما في اليابان والبلدان التي اكرمتها الاقدار بالمعايير والاولويات التي تضع انتاجية العمل والانجاز والابتكار على رأس اهتماماتها، فتجد عدد الموظفين الحكوميين محدود جداً ولهم دور فاعل في تقديم الخدمات وانجاز ما يوكل لهم من مسؤوليات، مقابل عدد هائل من الشركات والمشاريع والمؤسسات الأهلية (تقارب المليونين شركة) تشكل اساس تطور اليابان وسر معجزته الاقتصادية والعلمية.
اليابانيون تعرضوا الى هزيمة ومحنة كبيرة في الحرب العالمية الثانية، غير انهم نجحوا في تحويل كل ذلك الى معبر صوب التقدم والازدهار، عبر اعتصامهم بالهموم والمعايير المجربة في مجال كسب الثروة وتراكمها وتوزيعها، أما هزائمنا وكوارثنا المتكررة فلم تنتج سوى المزيد منها عبر اصرار سلالات “اولي الامر” على نهج الفرهدة وتحاصص اسلاب الغنيمة الأزلية…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة