قبل أكثر من أربعة عشر قرناً طوب الوالي الأموي سعيد بن العاص، أقدم مستوطنة للبشر باسم قبيلته عندما أطلق عبارته المشؤومة “إنما هذا السواد بستان قريش” مشرعاً بذلك الباب أمام كل أنواع الاستباحات والانتهاكات بحق هذا الوطن وسكانه الاصليين وثرواته ومواهب أهله جيلاً بعد جيل. هذا السكراب الثقافي والسلوكي والقيمي ما زال راسخاً وفاعلاً على مضاربنا المنكوبة، بالرغم من الزحزحات والتحولات الهائلة التي عرفتها سلالات بني آدم في شتى بقاع الارض، وما ظهور داعش واستباحتها لأكثر من ثلث الاراضي العراقية لأكثر من ثلاث سنوات إلا دليل لا يتناطح عليه كبشان على قوة ونفوذ تلك الموروثات السامة. عالم اليوم وببركة ثوراته العلمية والقيمية تمكن من عبور مثل هذه المحطات المريرة والمأساوية من تاريخه.
لقد قطعوا أشواطاً واسعة في مجال التخفف من أوزار الهمجية والتخلف وما يرافقهما من شعوذات وخزعبلات بالية، لذلك لم يعد بمقدور ماكينة التقديس والتعظيم والتصنيم تقديم المزيد من بضائعها النافقة، حيث القادة والزعماء والعلماء (الحقيقيون لا المزيفون) يبقون ومهما ارتفع وعلا شأنهم ومكانتهم، ضمن الوضع الطبيعي لهم كمواطنين لا يتميزون عن الآخرين بالحقوق والواجبات.
هذا هو الحال عند الأمم والشعوب التي أكرمتها الأقدار بشرعة الاعلان العالمي لحقوق الإنسان وما يحف بها من مدونات ومنظومات قيم تنتصر لمن حاولت السماء تكريمه ذات عصر، حيث لا مكان لديها لما تورم في مضاربنا المنكوبة أي (الرموز) من شتى المهن والتخصصات والرطانات والقبائل والاحزاب والكتل والملل… ولن نجافي الحقيقة عندما نقول بأن “بستان قريش” قد صارت بهمة قوارض المنعطفات التاريخية نهباً لقبيلة “الرموز”…!
بكل تأكيد لا يمكن فصل ظاهرة انتشار وتوسع عدد “الرموز” عما يجري في بلد حطت برحاله كل قوافل الفساد والعجز والتشرذم والفشل. وعندما نتمحص أكثر بمثل هذه الاعراض المرضية، نجدها تأتي منسجمة وما انحدرنا اليه (جماعات وأفراد) علميا ومعرفيا وثقافيا وسلوكيا في العقود الاربعة الاخيرة، حيث تربت أجيال عديدة على ترديد عبارة “بابا صدام” وغير ذلك من مستلزمات الأنظمة التوليتارية الغاشمة. لقد شاهدنا والعالم اجمع كيف انتشل “الرمز الضرورة” من حفرته النتنة، ذلك المشهد الذي لم يستوعبه المهروشون الجدد عند أطراف الوليمة الأزلية، لذلك نجدهم يعيدون لدكاكين صناعة الرموز مكانتها وسطوتها، حيث امتدت قائمتها لتشمل غالبية حيتان الطبقة السياسية الحالية والمتجحفلين معها من نجوم المؤسسات الطائفية والقبلية والأسر والسلالات المحظوظة، جمعيهم باتوا “رموزاً” لمجتمعات لا تحل ولا تربط. غالبية المنتسبين لنادي “الرموز” لا يحتاجون الى جهد كبير كي نتعرف على مآثرهم وفتوحاتهم الفعلية، فالبلد قبل “التغيير” وبعده ببركة وجودهم في حال لا تحسده عليه قبائل الهوتو والتوتسي، وهم والحقيقة تقال يمكن ان يكونوا رموزاً وتجسيداً لما حل علينا من كوارث ومحن تتواصل ليومنا هذا.
كنا بأمس الحاجة لمنظومة قيم وأسلوب حياة ووعي يتيح لنا استرداد ما خسرناه مع ممالك وقبائل وجمهوريات الخوف، كي يتعرف العراقيون على أجمل وأفضل ما لديهم من خصال ومواهب وشيم، لكن المذعورون الجدد من الذين تسللوا الى سنام السلطات كان لهم رأي آخر؛ تتحول فيه “بستان قريش” الى بستان للرموز الممتدة من الفاو لزاخو…
جمال جصاني
بستان الرموز..!
التعليقات مغلقة