ليس هناك أدنى شك في الاختلاف الكبير لنوع العقوبات عن سابقاتها، والتي بدأت الولايات المتحدة الأميركية بفرضها على إيران، بعد أشهر قليلة على قرار الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الذي انضمت اليه أميركا زمن ولاية الرئيس اوباما. وقد شاهدنا الآثار الوخيمة على الاقتصاد والعملة الإيرانية (التومان أوالريال) حيث تدهورت بشكل سريع خلال أسابيع معدودات من انطلاق الحزمة الأولى منها في شهر آب من العام الجاري، وبعد دخول الحزمة الثانية من العقوبات حيز التنفيذ يوم الاثنين 5/11 تكون ايران أمام أعنف حرب اقتصادية تستهدف القطاعات الأساسية لاقتصادها (الطاقة والمصارف والنقل والملاحة الجوية وغير ذلك من القطاعات الحيوية). عقوبات لا تختلف عما عرفته إيران في ظل حكم رجال الدين نهاية السبعينيات من القرن المنصرم وحسب، بل هي تأتي في زمن ومناخات واصطفافات ومزاج شعبي يختلف تماماً عما كان عليه في الأعوام الأولى لانتصار آخر ثورة شعبية في القرن العشرين. وهذا ما لم يلتفت اليه المسكونون بيافطاتها وشعاراتها المبكرة، والممسكون حالياً بلجام الأمور الفعلية في بلاد فارس، لا سيما بعد الرحيل المفاجئ لأكثر حراسها براغماتية وواقعية الشيخ هاشمي رفسنجاني، والذي ترك رحيله فراغاً كبيراً سيشعر به الإيرانيون بقوة هذه الأيام. من خلال متابعة تطور الأحداث ونوع ردود الفعل الرسمية للقوى الفاعلة في طهران، تجاه التصعيد الأميركي وانطلاق الحزمة الثانية من العقوبات؛ يمكن التعرف ومن خلال خطابات مرشد الثورة والجمهورية آية الله خامنئي وقادة الحرس الثوري وخطيب جمعة طهران المؤقت وبقية خطباء الجمعة والنشاط الإعلامي الرسمي بأشكاله المختلفة؛ على تقلص وانزواء لدور المعسكر الإصلاحي الرسمي والمتمثل بالشيخ روحاني وأعضاء كابينته الحكومية، بعد أن وجدوا أنفسهم وسط مناخات وأولويات لا تنسجم تماماً وما وعدوا به من برامج ومشاريع سياسية واقتصادية واجتماعية. بغض النظر عن الموقف من العقوبات بوصفها خياراً قاسياً ومؤلماً لا يمكن الوقوف الى جانبه أبداً كما الحرب والنزاعات والعنف وبقية الكوارث والمحن؛ إلا أن الانحدار اليها يعود لأسباب ومصالح وقوى، كما حصل معنا زمن الدكتاتورية المطلقة لذلك الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير، حيث قرارات الحرب والسلم وحياة البشر ومصيرهم رهن إشارته وأحكامه القرقوشية. كذلك عند الجارة إيران مع الاختلاف طبعاً، حيث القرار النهائي لمثل هذه الخيارات المصيرية محصور لدى فئة محدودة جداً من الأشخاص الذين تورمت سلطتهم بشكل لا محدود زمن الحروب والحصار والنزاعات المستمرة داخل ايران وخارجها. لقد فرط حكام طهران بفرص عديدة لإعادة النظر بسياسة حكومتهم الداخلية والخارجية، وآخرها مع دورتين من السياسة المعتدلة للرئيس اوباما، حيث كان بمقدورهم تجنيب وطنهم وشعبهم من مثل هذه الخيارات والمصائر القاسية (العقوبات والحصار) عبر الانتقال الشجاع والمسؤول الى سياسات متخففة من الشعارات الآيديولوجية وأوهام الرسالة الخالدة. خيارات واقعية تنسجم وتطلعات الشعوب الايرانية المشروعة في الأمن والاستقرار والازدهار، وكل من يعرف شيئاً عن سكان بلاد فارس وحضارتهم العريقة وما يمتلكونه من مواهب وقدرات وثروات مادية وبشرية وقيمية، يعرف تماماً انهم يستحقون مصيراً ومستقبلاً غير ما يعيشونه ويواجهونه اليوم من هموم وتحديات ونزاعات وحروب هم في غنى عنها. نأمل ان تنتصر الحكمة الايرانية وروح المسؤولية لديهم كي نتجنب وإياهم طورا آخر من الكوارث والمحن..
جمال جصاني
ايران على كف العقوبات
التعليقات مغلقة