بعد اغتراب طويل عن العالم الحديث وتحولاته الجبارة في شتى المجالات والحقول المادية والقيمية، شهدت منطقتنا نوعاً من الزحزحات والحراك الشعبي، أطاحت موجته الأولى بعدد من قلاع الدكتاتورية، مما أنعش الآمال بإمكانية استرداد شعوبها للمبادرة وتحويل آمالها وأحلامها بحياة حرة وكريمة؛ الى واقع لا سيما وان قاطرة التحولات صوب الديمقراطية والمؤسسات الحديثة قد وصلت الى أغلب أصقاع هذا العالم الذي حولته الثورات العلمية والقيمية الى قرية تزداد تراصا يوما بعد آخر. لكن ما عرف بـ “ربيع العرب” والذي عول عليه الكثير من المراقبين في نقل هذه المضارب المنحوسة، الى عالم الحرية والتعددية والحداثة، ما لبث ان نضح عن معطيات اخرى مغايرة تماماً لما رسمته مخيلتهم المندفعة بعيداً عن صخرة الواقع وحقائقه المتكلسة، والتي سرعان ما عرضت بدائلها المنحدرة الينا من مغارات القرن السابع الهجري وهمومه، عندما تلقفت مخلوقات وجماعات الإسلام السياسي لمقاليد أمور ما بعد ذلك “الربيع”. مثل هذه النهايات لذلك “الربيع” تأتي منسجمة وخارطة البدائل المتوفرة، وحجم الدغل الذي حاصر كل ما له صله بالبدائل الحضارية المنسجمة وتحديات العصر الواقعية لا الخرافية، فبعد سلسلة الهزائم والخيبات التي حصدتها شعوبها برفقة قافلة الأحزاب والتنظيمات “الحداثوية”، والتي برهنت التجربة عن فقدانها للكثير من مقومات ومتطلبات ذلك العنوان الضخم، تقهقرت هذه المجتمعات لمغاراتها وشرنقاتها التقليدية بعد أن شحت الخيارات الحديثة عنها لأسباب موضوعية وتاريخية تطرقنا اليها مراراً. ان استرداد زمام المبادرة من قوى الهوان والتشرذم التقليدية، يستلزم قبل كل شيء إزاحة واجتثاث ما يمكن ان نطلق عليه بـ (دغل البدائل الحداثوية) أو العمل بعيداً عنها، كي تتمكن الانبثاقات الجديدة من شق طريقها بأقل ما يمكن من الخسائر وجولات الإجهاض التي تحدث دائما برفقة ذلك الدغل الحداثوي.
من خلال تتبع مجريات الأحداث والمحطات التي عاشتها المنطقة ولا سيما العراق، منذ نهاية السبعينيات الى يومنا هذا؛ تتأكد لنا المعطيات التي أشرنا اليها، والى ضرورة النهوض مجدداً بعيدا عن حطام القوى الحالية، المتلفعة بجلباب التقدمية والليبرالية واليسار وغير ذلك من العناوين والتسميات الحداثوية. كما ان تجربة عقد ونصف من مرحلة ما بعد زوال النظام المباد، قد أكدت حاجة العراقيين من شتى الرطانات والأزياء الى البدائل الحداثوية بمشاريعها وتوجهاتها ووجوهها البعيدة عن ذلك الدغل الذي ما زال مصراً على ممارسة نشاطاته المعيقة لكل توجه جدي صوب تلك الخيارات السياسية المجربة، عبر تقديم نفسه بوصفه ممثلاً لمعسكر الحداثة والتقدم والتعددية والحريات، وعبر التسميات والعناوين واليافطات التي يتبرقع بها، مقدماً بذلك خدمات مجانية لقوى التخلف والتشرذم والانحطاط، من خلال سيرته وممارساته وسياساته وسلوكه (أفرادا وجماعات) الذي أوصل صيت هذه العناوين (البريئة من كل تلك السيرة) الى الحضيض. ان ما نشاهده من تجليات لانسداد الآفاق في المشهد السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي بالبلد (من الفاو لزاخو) يعكس بوضوح مثل هذه الحاجة، وهذا ما يمكن تلمسه في تداعيات ما بعد الاستفتاء في إقليم كوردستان، وكذلك في الاحتجاجات الاخيرة وحجم الاستياء والسخط الذي حملته ضد الطبقة السياسية الحالية ولا سيما في بغداد ومناطق الوسط والجنوب، وقبل ذلك في الضياع الذي أهدته منصات وخيام الاعتصام لسكان الموصل والمنطقة الغربية. كل ذلك يدعو الأجيال العراقية الجديدة كي تغذ الخطى صوب تلك البدائل الناجعة والمجربة بعيدا عن كثبان وشراهة دغلها وإصراره…
جمال جصاني
دغل البدائل الحداثوية
التعليقات مغلقة