مشاهد وتجليات بؤس الحال والأحوال التي نعيشها لا حدود لها، وكل المؤشرات تشير الى أنها وعلى المدى المنظور (باقية وتتمدد)، ويمكن التأكد من أكثر تجلياتها بؤساً، مع من يفترض نفسه منتسباً لشريحة المثقفين “الانتلجينسيا”، وتجده ومن دون أدنى وجع من عقل وضمير؛ يراهن على “احتجاجات واقتحامات” تقودها القبائل والجماعات المدججة بكل أشكال وأنواع السلاح الخارج عن الشرعية والقانون، تحت ذريعة محاربة الفساد والمفسدين. عندما يتم التعويل على مؤسسات ما قبل الدولة، والتي تغولت على حساب المشروع الوطني والحضاري (دولة الوطن والمواطنة) ومن قبل من يفترض بهم؛ أن يمثلوا رأس رمح ذلك المشروع، فذلك مؤشر واضح على الذرى التي وصل اليها ذلك البؤس المزمن. لقد تطرقنا مراراً وتكراراً الى ما نواجهه من مخاطر وتحديات، والى إمكاناتنا الواقعية في الإصلاح والتغيير، والى خطورة الاندفاعات المتهورة والبعيدة عن الحكمة والمسؤولية، والتي يصر على الترويج لها البعض ممن تلبستهم “روح الثورة والتمرد” في مثل الأوضاع والمناخات الغارقة بالتشرذم والهلوسات. مثل هذه المخلوقات لا تريد التعاطي حتى مع البديهيات؛ فالفشل والفساد وتفشي قيم اللصوصية والشعوذة والإجرام، غير كافية لوحدها كي تكون سبيلاً للثورة أو التغيير والإصلاح، فلمثل تلك التحولات في حياة الشعوب والأمم، مقومات ومستلزمات وشروط تخضع لها، والأمثلة لا تعد ولا تحصى على ذلك، إذ العشرات من المجتمعات والدول الغارقة بالفشل والفساد من دون أية إشارة على بوادر عافية أو تحسن على المدى المنظور. كان يفترض بالمتنطعين لقضايا الثقافة والفكر، ان يلتفتوا لعلل كل هذا العجز والفشل الذي رافقنا (قبل التغيير وبعده) ويمعنوا بتمحيصه ودراسة جذوره وأسبابه والعلل التي تقف خلفه، لا تسفيه كل ما جرى والمرور به بكل خفة واستهتار، عبر تهييج “شارع” تهيمن عليه القبائل والميليشيات وهذيانات ما قبل المغفور له كوبرنيكوس..!
ان الرهان على مثل هذا “الشارع” المثقل بكل ما هو متنافر، والقيم والهموم والاهتمامات التي نهضت بسلالات بني آدم في العصر الحديث، يعني الإجهاز على ما تبقى من أمل باسترداد العراق لعافيته واستقراره ومكانته بين الأمم. شارع لا يمتلك من مقومات وتشكيلات الحيوية السياسية والاجتماعية سوى حطام الأحزاب والنقابات والمنظمات، القابعة تحت نفوذ معايير ومخلوقات لا تشذ عن منظومة الفساد والفشل المهيمنة على مفاصل المشهد الراهن. حطام البشر والحجر هذا، هو نتاج طبيعي لعقود من الهيمنة المطلقة لنظام توليتاري عصف بكل ما له صلة بالحيوية والتعددية والتنوع والثراء المادي والقيمي (سر قوة العراق وتقدمه على مدى التاريخ). ان هذا التورم الهائل لنفوذ العشائر والميليشيات والفصائل المسلحة للأحزاب والتنظيمات الحالية، لم يكن ممكناً لولا الحالة المزرية للشارع العراقي، حيث تنسجم حاجاته وذائقته وممارساته ووعيه مع ما تنهض به تلك المؤسسات التقليدية (القبائل والسلاح الخارج عن سلطة الدولة) من غايات وأطماع وتطلعات شرهة ومتخلفة. كما ان تجربة أربع دورات انتخابية نيابية وغيرها من انتخابات مجالس المحافظات، وما جرى في النقابات والجمعيات، جميعها تؤكد صحة ما أشرنا اليه حول قدراتنا الذاتية المتواضعة والمعطوبة في غير مكان من جسدها وعقلها ووجدانها. نعم، الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد أمور عراق ما بعد “التغيير” فاشلة وفاسدة و(متصير إلها جاره) لكن الاستجارة بالقبائل والميليشيات والعصابات المسلحة، يعني التحاقنا كوطن وشعوب الى قافلة (المستجيرون من الرمضاء بالنار)..
جمال جصاني
المستجيرون بالقبائل والميليشيات
التعليقات مغلقة