ما ندعوه بالمكان هو الحيز الذي يتم تعيين حدوده، حيث يبدأ من لحظة التعيين هذه، كي يكون صورة حسية وملموسة تضم وجودنا ومداركنا ومعارفنا وخيالاتنا. وهو، كذلك ، فضاء يمثل فيه التاريخ، والذاكرة، والأشياء، والأفكار، وجميع ممارساتنا الإنسانية. ما يمنحه طبيعته الخاصة، وهويته التي تكسبه الحضور والتفرد عما سواه، أو ما نسميه مجازاً بروح المكان، والتي تنشأ جراء علاقة موثوقة وطويلة الأمد ما بيننا والعالم. لاشك أن فكرة المكان باتت تراثاً إنسانياً مشتركاً، منذ تلك اللحظة التي بدأ منها الإنسان بتأثيث فضائه، وكانت أيضاً، لحظة تعبير يطلّ من خلالها على العالم.
يمكن لنا أن ندعوه ” الخطاب المكاني”، ونعني ذلك الخطاب الذي يتبنّى فكرة المكان وصورته، ويمضي إلى محاولة قراءته وتفسيره في العديد من الممارسات الخلاقة والابتكارية في الأدب والفن والفكر معاً. استدعي عبارة الخطاب المكاني، هنا، للتعرف على طبيعة تناولنا للمكان ذاته في ثقافتنا الوطنية.والتي أجدها ما زالت بها حاجة ماسة للقراءة، والتصنيف، والنقد، وإجراء تعديلات، واقتراح علاقات تفسيرية للممارسات الإبداعية التي تجلت من خلالها تمثيلاتنا له.
إذ مازالت هناك طبيعة تناول مجتزأ عنه. فلطالما تداولنا جهداً يقرأ المكان من خلال النص الأدبي، في الرواية والشعر، مثلاً، ولكنه في الوقت ذاته تبدو هذه القراءة بعيدة وتديم نظرة قصدية، تستبعد علاقته بمؤثرات حسية وبصرية ومدينية خاصة في مجال الفن والعمارة. وبذريعة عدم وجود تبادل يذكر وتأثير فاعل بين ابتكارات النص الأدبي وتجسدات الانجاز الجمالي والبصري. وكأن هذا الموروث الذي طالما حاز على الامتياز والجدارة لم يكن جزءاً متقدماً من منظومتنا الثقافية وغير معبر عن فكرة المكان ذاته. أستذكر هنا عبارة الروائي الراحل عبد الرحمن منيف وفي إحدى حواراته، يقول: “يستوجب أن تقام جسور وأن تنشأ علاقات بين الفنون وبين أدوات التعبير المكتوبة؛ لأنها تغني نفسها وتغني بعضها في الوقت نفسه. وقد يكون هذا أحد المطالب الأساسية من أجل التغلب على الفقر الثقافي”.من هنا تتأتى أهمية تدبير قراءة، متكاملة، ذات أطار جامع تعزز ما هو ذوقي وجمالي في خطابنا الثقافي، وعبر اعتبار إن الخبرات الفنية والبصرية هي ليست واقعة فنية، تخصصية، بل معرفية وفكرية معاً، مايكرس من صلابة الإحساس الجمالي لهذه الثقافة وأحاطتها باستقلالية خاصة بها. هل يمكن لنا ذلك عبر إعادة تصورنا لفكرة المكان ومن عدم جعله غريماً، نحرض رؤيتنا على الهجرة منه؟ وتجاوز مفارقة من أن هذا التعاطي كان حاضراً بقوة في صلب الثقافة العراقية منذ خمسينيات القرن المنصرم، حيث كان ثمة التقاء لافت، مابين مشروع الشاعر والفنان والمعماري. وكانت تجربة كل منهما حافلة بوعود جمالية متعددة ومتكاملة. أننا نحتاج بحق إلى التفاتة لمحطات نيرة في ثقافتنا!!
سعد القصاب