أحزاب عابرة…

ارتفع في الآونة الأخيرة الطلب على ما يطلق عليه بـ (الأحزاب العابرة)، أي تلك الكيانات والتنظيمات العابرة لزجر “الهويات القاتلة” بعد أن دفع سكان هذا الوطن المنكوب من شتى الرطانات والهلوسات والخرق، خسائر وتضحيات هائلة في الأرواح والثروات والفرص في الهرولة خلف سرابها القاتل. أكثر من أربعة عشر عاماً من الضياع ونهش بعضنا للبعض الآخر، أجبرتنا أخيراً على الإقرار بهزالة خياراتنا وبؤس استعمالنا للديمقراطية وصناديقها، عندما فرطنا بفرصتنا في اختيار ممثلين لائقين لإدارة دفة الحكم بعد زوال النظام المباد، ومنحنا أصواتنا لنوع من الكتل و”الأحزاب” والكيانات، كل مواهبها تكمن في إعاقة بعضها البعض، عبر الاستثمار في حقول التشرذم وكراهة الآخر المختلف. وكما أشرنا مراراً؛ فأن بؤسنا الراهن (حزبياً وتنظيمياً) تقف خلفه حزمة من الأسباب الموضوعية والذاتية، على رأسها يأتي العمل الممنهج والطويل لتصفية كل أشكال التعددية والنشاط السياسي والنقابي، والذي نفذه النظام المباد طوال أربعة عقود من هيمنته المطلقة على مصائر العراقيين داخل الوطن وخارجه.
ما نحظى به اليوم من حطام “الأحزاب” والكيانات هو نتاج طبيعي لتلك السياسات التي طاردت وتربصت لكل ماهو حي وفعال وحر على تضاريس هذا الوطن القديم وخارجه. لذلك يصعب على الكثيرين إدراك طبيعة المشهد الراهن وتعقيداته، لا سيما موضوع استعصاء ظهور البدائل والمشاريع السياسية القادرة على انتشالنا من هذا المأزق والانسداد التاريخي الذي نواجهه. إن ما نشاهده من محاولات لركوب موجة (الأحزاب العابرة) من قبل حيتان حقبة “الفتح الديمقراطي المبين” هي نوع من الهروب للأمام من قبل هذه الكتل والشخصيات المتورطة بكل ما جرى من كوارث وخيبات ما بعد “التغيير”. لذلك وبسبب من قدراتهم وتطلعاتهم الفعلية والتي تعرفنا عليها جيداً، سيجدون أنفسهم قد شكلوا أحزاباً عابرة، لكن ليس بالمعنى الذي أشرنا اليه في بداية المقال (عابرة للتشرذم والتمترس) بل أنها عابرة، أي مؤقتة ولن تمكث طويلاً..!
للأحزاب العابرة بالمعنى الوطني والحضاري جذور وأساس تشكل مع ولادة العراق الحديث العام (1921) وقد تجسدت ملامحه بشكل أكثر وضوحاً، في الحزب الوطني بزعامة الشخصية الوطنية البارزة جعفر أبو التمن. كما مثل الحزب الشيوعي العراقي لعقود عديدة أنموذجاً متطوراً للأحزاب العابرة للتخندقات على أساس “الهويات القاتلة” وتمكن من قيادة نشاطات مؤثرة لنشر الفكر الإنساني ومنظومة قيم الحداثة والتقدم، قبل أن يتراجع دوره ويتقهقر لأسباب تطرقنا اليها سابقاً. لذلك كله نجد أنفسنا غير قادرين على استقبال مثل هذه الفزعات السياسية بوصفها انعطافة فعلية على طريق استئناف التقاليد الوطنية والحضارية في العمل الحزبي والسياسي. إن تطورات المشهد الراهن وما ينضح عنه من انشقاقات متتالية داخل الكتل المتنفذة، وتقمص غير القليل منها لليافطات والخطابات والتسميات الوطنية والحداثوية، تعكس الحاجة لمثل تلك المشاريع المجربة، لكنها في نفس الوقت تشكل خطراً على التطور الطبيعي صوب تلك التحولات الضرورية، وهنا تسترد عبارة غرامشي المشهورة أهميتها عن أوضاع تاريخية (حيث القديم يموت ويتعفن والجديد لم يولد بعد، حيث تظهر أعراض مرضية لا مثيل لها). نعم نحن بأمس الحاجة لعودة الأحزاب السياسية ذات الهوية العراقية والحضارية، والتي تواصل وتطور تقاليد العمل الوطني التي عرفناها مع الرعيل الأول من الزعامات التي جمعت بسلوكها وسياساتها وروح الإيثار التي سطرتها مثالاً واقعياً للتنظيمات العابرة لكل ما له صلة بعقائد وخطابات التشرذم والهوان..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة