جميع موارد العراق موجهة لمشاريع ليس لها علاقة بمشكلة السكن

استنزفت ميزانية الدولة على عقود وهمية
حذام يوسف طاهر

من الحاجات التي تقع ضمن اولويات الانسان هي توفير سكن ملائم له ولعائلته ، وتأتي بعد أهمية الجانب الامني داخل الدولة، وعلى مدى التاريخ الحديث للدول كانت تشكل أزمة السكن تحديا كبيرا أمام الحكومات، لاسيما في دول العالم الثالث، فدول العالم المتقدم استطاعت ان تؤسس لها مشاريع عالجت بها هذه المشكلة وحدت من توسعها، في حين مازالت هذه المشكلة أزمة عصية على الحل في الدول النامية ومنها العراق برغم ما اتخذته تلك الدول من معالجات وسياسات لحل هذه الازمة الا انها مازالت تتقدم ولم تتراجع!
ويعاني العراق منذ عقود من أزمة السكن وذلك لعدة أسباب منها سياسية ومنها اقتصادية واخرى اجتماعية، فما مر به البلد من حروب متلاحقة وفوضى سياسية وأمنية مازلنا نعاني منها الى اليوم، والتي أدت بدورها الى اضطرابات بأوضاعه الاقتصادية التي تأثرت بنحو كبير جدا بالوضع السياسي، فكل الموارد اليوم موجهة لمشاريع ليس لها علاقة بمشكلة السكن، بل استنزفت ميزانية الدولة لمشاريع اعترفت الحكومة بانها مشاريع وهمية ! ومنذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تتسع المشكلة بنحو مرعب وليس هناك حلول جدية للموضوع،وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن وسط تخبط واضح في السياسات والخطط المتفق عليها لمعالجة المشكلة، ازدادت الاحياء الفقيرة والمجمعات العشوائية، والنزوح غير المنظم ومؤخرا أزمة التهجير القسري لعدد من المحفاظات التي تعرضت للحرب مع داعش، مما فاقمت من المشكلة أكثر بل ان خبراء الاقتصاد يؤكدون على ان أزمة السكن تحتاج الى ثورة حقيقية اقتصادية، وقرارات جادة لمعالجتها، لاسيما وهي مرتبطة بحزمة من المشكلات منها ازمة الكهرباء، وبؤس البنى التحتية، وارتفاع اسعار العقارات والاراضي، بسبب زيادة الطلب عليها، وتشير الدراسات الى وجود عجز كبير في توفير الوحدات السكنية، وربما ازدادت مؤخرا بعد هجرة الالاف من العائلات العراقية من محافظاتها التي دمرت بسبب الحرب مع داعش ، والتي تحتاج الى مبالغ هائلة لاعادة اعمارها وتأهيلها مرة اخرى للسكن، وفي ظل غياب نظام اقتصادي ناضج فالمشكلة في تفاقم متواصل، لاسيما وان أصحاب العقارات يلجأون الى طرق ملتوية تغبن حق المؤجر وتضعه تحت رحمة صاحب العقار وادعاء قصص وهمية فقط للضغط على المواطن لزيادة ايجار العقار او لاخلائه.
المصارف الحكومية والاهلية الخاصة بالسكن أطلقت سلفا أثارت جدلا بين المواطنين، الذين حملوا المصارف مسؤولية ارتفاع اسعار العقارات والايجارات من دون حلول جذرية لهذه الازمة القديمة الحديثة، واقتصرت على فئات محددة، عدا ان هذه المصارف تحمل المواطن فوائد على هذه القروض تثقل كاهله بدلا من ان تعينه ، لاسيما المصارف الاهلية، كما ان اغلب المصارف تفضل منح القروض للموظفين بضمان الراتب، بينما يصعب على العمال والكسبة الاستفادة من تلك القروض، وبقي الامل لكثيرمن العراقيين ان تتبنى الحكومة مشروعا سكنيا وبناء مجمعات سكنية تسهم ولو بقدر محدود في حل المشكلة.
مشكلة السكن كانت محورا لعدد كبير من الندوات والدراسات، مايخص حاجة البلد من الوحدات السكنية، وماتتطلبه هذه المرحلة من ضرورة إيجاد البدائل للمجمعات العشوائية التي شوهت المدينة، والتي خلقت أزمة اخرى في كيفية تنظيم تلك الاحياء التي تجاوزت على الاراضي الزراعية، وتحدث عدد كبير من الباحثين حول هذه المشكلة التي يتشارك بها العراق مع عدد من دول الجوار على نسب متفاوتة منها على سبيل المثال لا الحصر لبنان، ففي هذه الدولة طرحت الكثير من البحوث حول، حق السكن بدلاً من قانون تحرير الإيجارات ومنذ اقرار قانون الايجارات، سعت الفكرة الى الاحاطة بالاشكاليات الناشئة عنه، خصوصا على صعيد التوازن المناسب بين حقّي السكن والملكية، واذ هي تنوي مع شركاء آخرين انشاء فريق متعدّد الاختصاصات لبدء العمل على مسودة مشروع قانون حول حقّ السكن، يهمّها أن توضح المنطلقات التي توجّهها في هذا الصدد مخضعةً اياها للنقاش العام ، وبالامكان اختزال موقفها :

حق السكن لا يعني المستأجرين القدامى وحدهم
أن أهم ما أسفر عنه النقاش العام الحاصل تبعا لقانون الايجارات وخصوصا قرار المجلس الدستوري الصادر في 6-8-2014 هو تكريس حق السكن، أي حق التمتع بمسكن لائق، كحق دستوري، وقد تم ربط هذا الحق بمجموعة من الأهداف الوطنية «ذات القيمة الدستورية» (تحقيق العدالة الاجتماعية والانماء المتوازن) والحقوق (الحق بانشاء أسرة، الحق بالعيش بكرامة.. ألخ) دلالةً على أهميته. وبالطبع، لا ينحصر حق السكن بمعناه الدستوري بفئة المستأجرين القدامى، انما يقتضي أن تكفله الدولة لجميع المواطنين، بقدر حاجاتهم ومواردهم. وعليه، فلن يقتصر الحديث عن حق السكن وكفالة الدولة له على المستأجرين القدامى من دون سواهم، انما يشكل خروجا عن مبدأ المساواة أمام القانون ويقتضي اصلاحه.

ضمانات لحقّ السكن
في هذا المجال، أكّد المجلس الدستوري أنه يقع على السلطات العامة مسؤولية توفير المسكن للمواطن. وقد أشار في بعض حيثياته الى المقصود من هذه الضمانات، ومنها ما يدخل ضمن مسؤولياتها العامة كوضع السياسات الاقتصادية والتنمية المتوازنة وتأمين وسائل النقل من منطقة الى أخرى، ومنها ما يتصّل بوضع سياسات اسكانية بمعناها الضيق والمباشر، واذ أحجم المجلس الدستوري عن تفصيل هذه الضمانات، فانه من المتفق عليه أنها تشمل ليس فقط تسهيل القروض أو منح مساعدات مالية أو عينية لذوي الدخل المحدود أو انشاء مساكن شعبية (وهي عموما تدابير تستهدف الفئات من ذوي الدخل المحدود)، انما أيضا التدخل في سوق الايجارات كأن يتم اعتماد سياسات ضريبية من شأنها تحفيز عرض الشقق الشاغرة للايجار. والمسألة التي قدّم المجلس الدستوري بشأنها حلا ضبابيّا تكمن في مدى امكانية تدخّل الدولة في العلاقات التعاقدية بين المؤجرين والمستأجرين. فبعدما صرّح أن حق الملكية ليس حقا مطلقا وأنه من الجائز تقييده تحقيقا لمصلحة عامة أو تجنّبا للتعسّف في استعمال الحق، عاد ليؤكّد في حيثيّة أخرى وعلى نحو لا يخلو من التناقض، على عدم جواز المسّ بالحرية التعاقدية بين المالك والمستأجر. وقد أغفل المجلس في هذا الاطار الملاحظات الأممية على حق السكن المشار اليه في المادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تجيز صراحة للدول التدخّل لفرض حدّ أقصى للبدلات في مناطق معينة.

تحرير الاجارات القديمة
الحجة الأساسية التي تحاول الجهات المناصرة لقانون تحرير الايجارات، وفي مقدمتها نقابة المالكين، ابرزها هي أن قوانين الايجارات القديمة قد أدت الى ظلم المالكين القدامى طوال 70 سنة، وأنه ثمة ضرورة ملحة لانصافهم من دون أي تأخير. وتبعا لذلك، يقدّم المالكون أنفسهم عن حق أو باطل (وهذا ما نناقشه أدناه) على أنهم «ضحايا» معتدى عليهم ويعانون من ظلم مديد وكبير، وبالطبع، لاعتماد خطاب مماثل (خطاب الضحية) مفعول ثلاثي: فهو من جهة أولى، يظهّر قضية هؤلاء ليس على أنها قضية مقاولة أو مضاربة أو استثمار مالي مع ما يستتبع ذلك من تساؤلات ومحاذير، بل على أنها قضية انسانية بكل ما للكلمة من معنى، قضية دستورية، قضية حقوق انسان من غير المنصف التنكر لها أو حتى التشكيك فيها أو التردد بشأنها. وهو من جهة ثانية، يبدّد التأثيرات التي قد تنجم عن الاعتبارات الانسانية التي يتذرع بها المستأجرون. فبفعله، يصبح المالكون هم الضحايا الذين يفترض بالرأي العام أن يتعاطف معهم، ويصبح المستأجرون هم المعتدين (المحتلين على وفق أدبيات نقابة المالكين) الذين يواصلون اعتداءهم بدل الاعتراف بجميل هؤلاء ولا يجدر تاليا ايلاء مطالبهم أي اعتبار. فدموع المستأجرين لا تعدو كونها دموع تماسيح، وأي خطاب مدافع عنهم هو بالضرورة خطاب ظالم وديماغوجي ما لم يكن محفوفا بالمصالح المادية الخاصة. ويبدو أن كبار المتعهدين (والذين لهم مصلحة أكيدة في تحرير الايجارات القديمة) شاركوا في انجاح هذا الخطاب من خلال النأي بأنفسهم عن أي تدخل مباشر بأي شكل من الأشكال، ما دام أن أي ظهور لهم قد يطرح علامات استفهام حول مدى مصداقيته. وقد بدوا من خلال ذلك وكأنما يخفون مصالحهم المالية المرتبطة بنفاذ هذا القانون، وراء وجوه بعض المالكين القدامى الذين يجسدون على غير منبر مشهدية الضحية. أما المفعول الثالث لهذا الخطاب، فهو أنه يمنع أي رجوع الى الوراء في اتجاه اعادة اعتماد آلية التمديد القانوني للايجارات، ما دام أنها بحد ذاتها آلية ظالمة تتم دوما على حساب المالك ولا تتماشى اطلاقا مع مبادئ القانون. وقد حقق هذا الخطاب بالفعل نجاحات كبيرة، أبرزها ما نقرؤه في احدى حيثيات المجلس الدستوري، لجهة تأكيده أن المالكين القدامى قد عانوا فعليا من ظلم لسبعين سنة، وقد شكلت هذه الحيثية أحد أسناده لرفض آلية التمديد القانوني واعلان رضاه على الموازنة التي أجراها القانون بين مصالح الفئتين المتنازعتين.
والواقع أن هذا الخطاب يفتقر الى الدقة، بل هو الى حد كبير غير صحيح. وهذا ما نتبينه لدى التدقيق في معطيين اثنين:
– الأول، من شأنه أن يصحح الخطاب، أن آلية التمديد القانوني لا تؤدي بحد ذاتها الى غبن المالكين، لكنها تصبح كذلك فقط في حال لم تتم على وفق شروط الموازنة المشار اليها أعلاه. ومن هنا، وجب تصحيح الخطاب لجهة أن الظلم الذي لحق ببعض المالكين (وليس كلهم) قد نشأ في فترة لاحقة لبدء الحرب وليس قبلها، وتحديدا بعد انهيار الليرة اللبنانية في أواسط الثمانينيات، وأنه قد نتج ليس عن آلية التمديد القانوني بحد ذاتها، بل عن اغفال المشرع عن ضمان بدل عادل للمالك كما سبق بيانه.
– الثاني، ومن شأنه أن يقوض مشروعية خطاب المالكين بنحو كبير، فهو يتصل باختزال المالكين بفئة واحدة منهم هي فئة المالكين القدامى.
ففي عدم جواز الغاء ضمانات لحق دستوري من دون ايجاد ضمانات موازية في هذا المجال، نجد خطأ آخر للمشرع وللمجلس الدستوري الناظر في قانون تحرير الايجارات على حد سواء. ومفاده أنه لا يجوز الغاء ضمانات لحق دستوري من دون ايجاد ضمانات بديلة عملا باجتهاد راسخ للمجلس نفسه. والمقصود طبعا بالضمانات الملغاة هو حق تمديد الاجارة بالنسبة لذوي الدخل المتوسط والمحدود أو المعدوم. فالأُوَل (أي ذوو الدخل المتوسط) يحتاجون الى كفالة الدولة لحقهم بالتمتع بمسكن لائق ببدل عادل (يقل بكثير عن بدل المثل تبعا لعوامل المضاربات والسوق)، فيما يرجّح أن يعجز الآخرون عن تسديد البدل العادل حتى، ويحتاجون تاليا الى ضمانات اضافية (مالية أو مساكن شعبية) في هذا السياق. بالمقابل، لا يشمل هذا المبدأ المستأجرين ذوي الدخل المرتفع والذين ليس بامكانهم التذرع بأي حاجة مشروعة في هذا المجال.
ولا يرد على ذلك بأن المشرع منح المستأجر مدة سماح قبل تحرير الاجارة تمكينا له من ايجاد بدائل وأنه وضع آلية لمساعدة ذوي الدخل المحدود، ذلك اما لأن هذه الضمانات غير كافية أو لأنها وهمية.
فالبدل المعتمد كمعيار من قبل المشرّع في فترة التمديد السابقة للتحرير ليس البدل العادل المشار اليه أعلاه، بل ولا حتى بدل المثل الرائج في السوق، بل هو بدل يزيد على بدل المثل (5% من قيمة المأجور). وتاليا، فان الضمانة المتمثلة في فرض نسب معينة من بدل المثل تدريجيا في السنوات الستّ للتمديد (وليس كله دفعة واحدة) تكاد تمحّي بفعل ارتفاع البدل المعتمد كمعيار للحساب. وبذلك، بدا المشرع وكأنه يلغي بفعل البدل الباهظ الذي فرضه الضمانة المتمثلة بمنح فترة سماح.
كما أن المشرع لم يول الأشخاص المتقاعدين وكبار السن أو ذوي الحاجات الخاصة أي خصوصية من أي نوع كان، علما أنه يستبعد أن يتمكن هؤلاء من زيادة مداخيلهم خلال فترة السماح، أو من ايجاد بدائل للسكن بغياب أي سياسة اسكانية تشملهم بأحكام خاصة.

الخلاصة: نحو قانون حق السكن؟
انطلاقا من كل ما تقدم، أمكن تسجيل الخلاصات بان حقّ السكن هو حقّ مضمون دستوريّا وبموجب المواثيق الدولية، وأنه يقع على عاتق السلطات العامة ضمان الحق المذكور من خلال وضع سياسات اسكانية عامة تتجاوز حدود المآجير القديمة، ومع أخذ أوضاع المواطنين (بما فيهم المستأجرين القدامى) المالية والاجتماعية والعمرية بعين الاعتبار. ومن هذه الضمانات طبعا حق التدخل في سوق الايجارات وتحديدا في الحرية التعاقدية بين المؤجر والمستأجر ومن شأن آلية التمديد القانوني أن تشكل في ظروف معينة أداة لضمان حق السكن، على أن تبقى مشروعيتها وقفا على توفر شرطي الضرورة والتناسب (وجود حاجة مشروعة للمستأجر وضمان بدل عادل للمالك) وأن وضعية مالكي الايجارات القديمة ليست واحدة وكذلك انتظاراتهم وحقوقهم ومصالحهم، وهي تختلف على وفق تاريخ تملكهم للمساكن الخاضعة للاجارة القديمة. ففيما أن ثمة ضرورة في انصاف من تم تحميله لسنوات طوال مسؤولية اسكان المستأجر في ملكه، يؤدي تحرير الايجارات بالنسبة الى الآخرين (بعد 1992) ليس الى انصافهم، انما الى تحقيق اثراء غير متوقع وغير مشروع، على حساب المالك القديم الذي تفرغ له عن ملكه بنصف ثمنه لخضوعه لنظام الاجارة القديمة.
– أنه لا يجوز الغاء ضمانة لحق دستوري من دون ايجاد ضمانات موازية عملا باجتهاد دستوري راسخ. وهذا ما تم بفعل قانون تحرير الايجارات بحيث بقيت الضمانات الممنوحة غير كافية وأحيانا وهمية.
– اما أن تحتم هذه السياسات الابقاء على تمديد الاجارة القديمة ضمن شروط مغايرة أكثر عدالة للمالكين وصرامة ازاء المستأجرين من ذوي المداخيل المرتفعة، واما أن توفر هذه السياسات ما يمكّن السلطات العامة من منح المستأجرين القدامى من ذوي الحاجات المشروعة ضمانات مساوية للضمانة التي يوفرها لهم حاليا حق التمديد، الأمر الذي يسمح اذ ذاك، وفقط اذ ذاك في تجاوزه والغائه
– أن أي ضمانة من أي نوع كان تعطى لمستأجر قديم (كأن تقدم له مساعدة مالية) تفترض منح الضمانة نفسها للمواطنين الذين هم في الوضعية نفسها، لجهة الاحتياج الى كفالة الدولة بتأمين مسكن لائق، وذلك عملا بمبدأ المساواة أمام القانون.
– انطلاقا من كل ما تقدم، ثمة ضرورة للعمل على وضع مسودة مشروع قانون جديد ناظم لحق السكن وللسياسات الاسكانية العامة.
ختاما نقول ان ماجاء في المفكرة اعلاه في لبنان، ربما يكون بابا لمراجعة بعض القوانين الخاصة بالسكن والايجار، او هي فرصة لفتح قنوات جديدة وجادة مع المؤسسات المعنية بالموضوع في دول الجوار والاستفادة من تجاربهم في هذا المجال لنصل الى صيغة تعين المواطن ولاتربكه أكثر وسط ظرف اقتصادي واجتماعي قلق منذ عقود.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة