يختزن نوروز (اليوم الجديد) كماً هائلاً من المعاني والقصص والأساطير، لكن سر حيويته تكمن في هذا التلاقي بين أجمل ما في الطبيعة (التجدد والخصب) وما في الإنسان (الحرية). كما يعلن عن بداية سنة جديدة في التقويم المعمول به عند عدد من الشعوب والأمم، والتي تشارك الطبيعة احتفالها بقدوم فصل الربيع. إن الاحتفاء الحقيقي بهذا العيد المترع بالمعاني والقيم المناصرة للخصب والتجدد والجمال؛ يكون عبر الانتصار لمنظومة الحريات والحقوق التي تصون كرامة البشر من دون تمييز عرقي او جنسي أو اجتماعي. وهذا ما حملته المشاعل التي توهجت على قمم الجبال، معلنة عن زوال عهد العبودية والاستبداد وانتصار الحرية ومنظومة القيم المتناغمة معها، متمثلة بكاوه الحداد ورفاقه الأحرار.
في مثل هذه الأيام من ربيع العام 2003 تخلص العراق من أبشع نظام شمولي في تأريخه الحديث، وبالرغم من مرور 14 عاماً على ذلك التحول التأريخي، ما زال سكان هذا الوطن القديم من شتى الرطانات والمنحدرات والأزياء، عاجزين عن وضع المنحة التأريخية التي وهبتهم إياها الأقدار (الحرية) على أساس راسخ من التشريعات والتنظيمات والبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية. هذا الخلل والعجز البنيوي يمتد من الفاو لزاخو، ولا يختلف الأمر كثيراً مع من يفترض أنه سليل كاوه الحداد، إذ ما زالت قضايا الحرية والحداثة والتجدد تعيش مأزقاً وانسداداً في الآفاق، انعكس على شتى مستويات العيش والنشاط في إقليم كردستان، حيث القوى التقليدية والعشائرية والأسرية والمناطقية، ما زالت مهيمنة وتحارب بقسوة، كل من يفكر في اقتفاء أثر الرسالة المتوهجة لمشاعل النوروز.
رائعة هي كرنفالات نوروز وأزياؤه وحلقات دبكاته وإيقاعاته البهيجة والراقصة، ووهج نيرانه ومشاعله؛ لكن كل هذا النشاط والبهجة سيبقى باهتاً ومغترباً من دون خطوات وقرارات شجاعة ومسؤولة صوب الحرية والتجدد في حياة الناس السياسية والاجتماعية والروحية. لكن ما نراه اليوم يشير الى عكس ذلك تماماً، إذ تسعى القوى التقليدية المهيمنة على مقاليد الأمور، على فرض تلك الهيمنة وترسيخها عبر استثمار ما منحته مرحلة زوال النظام المباد، من فرص وثروات وإمكانيات، لصالح النفوذ الأسري والفئوي والعقائدي الضيق. ونحن نعيش لحظات هذا العيد المترع بالمعاني الإنسانية الخالدة (نوروز) نجد أنفسنا اليوم بحاجة الى أكثر من “مطرقة” كي نتحرر من قبضة قوى الجمود والتخلف والشراهة والفساد، والتي تورمت ببركات قيم الغنيمة والفرهود وإعادة تقسيم أسلاب الغنيمة الأزلية.
إنها مناسبة لإيقاظ الهمم وروح التجدد، بعد عقود طويلة من التعفن والركود، وهذا العيد نوروز (يوم جديد) دعوة لا تخفت على مر العصور، من أجل المعاني المتجددة للحياة (الحداثة)، وهذا هو سر قوته وبقائه على مر الزمان، إذ تستجيب رسالته وشحناته وناموس الحياة (الحركة) والتي ستلتقي عاجلاً أم آجلاً وتطلعات الأجيال الجديدة من أجل حياة حرة وكريمة. لا مهرب من مثل هذه التحولات صوب التجدد والمزيد من الحقوق والحريات الفردية والعامة، وغير ذلك سيعني المزيد من الكوارث والمحن، والمزيد من الحروب والنزاعات المتخصصة باستهلاك المجتمعات التي استوطنتها عقائد التعفن والركود والأحقاد الصدئة، المتنافرة وروح نوروز المترعة بالخصب والحب والإيثار والجمال والإبداع ..
جمال جصاني
نوروز وهج الحرية والتجدد
التعليقات مغلقة