حكاية لم تكتمل

شيماء المقدادي

صباح جديد مثل صباحات كل يوم لا يأتي بجديد، ولم نعد ننتظر الجديد الذي لا يأتي، صغارنا هم من ينتظر شمسا جديدة لينطلقوا إلى أحضان الأزقة يمرحون ويتناسون نصائحنا بعدم الابتعاد عن بيوتنا خوفا من الخطف أو القتل العشوائي. أراقب أصغر أولادي خوف أن أسهو عنه فيخرج كما إخوته الأكبر سنا يلعبون ويمرحون مع رفاقهم، وليته يعرف كيف يلهو مع إخوته أو مع أطفال الحي.
لم نفكر بإنجاب طفل جديد حين حملت به، كان لدي خمسة أطفال ( ثلاثة أولاد وبنتان ) وهو عدد جميل لنصبح عائلة ليست بالصغيرة ، هباء ذهبت محاولاتي لإجهاضه ، كأنه تعلق برحمي ورفض أن يصبح لا شيء بعد أن أصبح كيانا في هذه الحياة ، واستسلمت للأمر وأنجبته .
كان جميلا حين جاء إلى هذه الحياة، بريئا من أنفاسها البشعة التي تركت أثارها عليه حين كبر وعرفنا أن هناك خللا في تكوين دماغه يؤخره بالنمو والوعي لسنوات، اليوم هو ابن السابعة من عمره لكنه لا يختلف عن ابن الثلاث سنوات، انغلقت عليه كأنه كل أبنائي ربما لشعوري بالذنب لأني حاولت أن امحيه من الوجود حين أصبح ذرة في هذا الكون الكبير فجاء عليلا تكفيرا لذنبي ! . شعر البقية بالغيرة منه وابتعدوا عنه، لكنه حين بدأ يكبر كان يتقرب منهم بطريقة جعلتهم يحبونه ويقدمونه على أنفسهم إلا في اللهو، سواء في لعب كرة القدم في الشارع أو بالتسكع مع أصدقائهم، يصطحبونه معهم قليلا لكنه يتذمر بعد قليل فيعيدونه، ثم بدأوا يرفضون اصطحابه للخارج.
مع مرور الأيام بدأ يعرف طريقه إلى الخروج بخطواته الصغيرة والضعيفة ويتعرف إلى عالم اكبر وأوسع لوحده، فحين كان إخوته يخرجون ويغلقون الباب خوف أن يتعقبهم فيشغلهم به كان هو يبقى جالسا خلف الباب، يطرقه مرارا ظنا منه أنهم سوف يعودون له، فيتملكني حزن مصحوب بألم عميق كأني أرى طيرا يرفرف بجناحيه وهو يحلق في قفص صغير ويتخبط بين جدرانه الضيقة ليخرج الى الحرية، أمد يدي وافتح الباب وهو يمطرني بوابل من النظرات الشاكرة، يخرج واقفا كحارس شخصي أراقبه، ومع تكرار الأمر بدأ يعرف كيف يفتح الباب ويخرج. يسحب نفسه دوما ليستقر بالجلوس فوق عتبة باب جارنا ( مالك الحزين ) كما نسميه بسبب الحزن الساكن في ملامح وجهه بعد وفاة زوجته وسفر أبنائه إلى دول الغرب ، استلطفه الجار وطلب مني أن أتركه معه يلهيه عن وحدته وأصبح أفضل رفيق له ، يخرج كل يوم نحو بيت الجار، يجلسان عند عتبة الباب ليروي له حكاية ، لكن مالك اختفى فجأة، ولم نعد نراه في الحي أو نسمع أخباره ، بعضهم قال انه قُتل ! لكن لِمَ يُقتلُ رجل مثل مالك لا شأن له فيما يجري في هذه الحياة كأنه يعيش كما ولدي على هامشها ؟ , وقيل انه سافر إلى ولديه ولحق بهم ، قيلت أشياء كثيرة ، نسبه البعض لحزب ما فأستهدفه حزب أخر ، ونسبوه للعمالة إلى بلد أخر أو فكر متطرف ، أشياء كثيرة لم نصدقها ولم يستوعبها عقل صغيري كما لم يستوعب غياب رفيقه الوحيد مالك الحزين ، وبدأت أشدد مراقبتي له ، فدوما ما يستغل سهوي عنه ويخرج إلى باب جارنا ويطرقه مرارا وتكرارا ، أخبره برفق أن صديقه لم يعد موجودا واسحبه من يده لأعيده إلى البيت لكنه يسحب مني كفه الصغيرة ويعيدها لعملها في طرق الباب وهو يردد ( يجب ان يكمل لي الحكاية ، ماذا فعلت الأميرة حين قصوا جدائلها بينما كان الحرس نائمون ؟ ) يعتصر قلبي الحزن وأنا أحاول أن أفهمه ألا أحد في البيت لكنه يرد عليَّ بسؤال واحد: أين هو ؟!
اصمت فلا جواب لدي يستوعبه عقله الصغير. ينظر إلي فتهطل دموع من عيني لنظرته الضعيفة البريئة، اربت فوق كتفه وأنا أخبره ( ربما يأتي غدا ويُكمل الحكاية ) . يعود معي وكفه الصغيرة في كفي وهو يُدير رأسه كل لحظة نحو باب الجار علّه يخرج. يعيد سؤاله الذي لا يمله: متى يعود؟
الآن أصبح يجلس أمام النافذة يراقب بيت الجار وبابه لعّها تُفتح، اسمعه يردد العبارة التي حفظها مني (ربما يعود غدا ويُكمل الحكاية ) أردد مع نفسي” ربما ، وربما تفهم غدا أن هناك حكايات لا تكتمل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة