لم يكن القرن العشرون هو الحقبة التي ظهرت فيها الدول العربية للوجود، بعد أن كانت مجرد ولايات عثمانية غارقة في العزلة، فحسب. ولم تكن مأثرته الكبيرة أنه القرن الذي تحررت فيه هذه الدول من هيمنة الاستعمار الأوربي، فقط. بل كان عصر النور الذي حطمت فيه الشعوب العربية أسوار التاريخ، ونفضت عنها ركام التخلف.
لقد شهدت البلاد العربية في هذا القرن أكثر من نهضة، على أكثر من صعيد. حتى أن المرء ليجد فرقاً شاسعاً بين بداياته ونهاياته، بحكم ما حدث فيه من ثورات اجتماعية وثقافية كبيرة. غير أن من الغريب أن القرن الذي تلاه، أي القرن الواحد والعشرين، شهد تراجعاً واضحاً في الإنتاج الثقافي، وخصوصاً في الشعر. بعد أن أخذت القامات الشعرية الكبرى تتوارى عن الأنظار، وآخرها الراحلة لميعة عباس عمارة، التي شهدت هذا العام ظهور مجموعتها الشعرية الكاملة، فختمت مقدمتها بكلمة وداع، قبل أن تلقى وجه ربها بوقت قصير. وربما كانت مسك الختام في الشعر العربي. فلم تستطع الأسماء الجديدة ملء الفراغ، الذي غدا حقيقة لا تخطئها الأذواق والعقول.
لقد كانت هناك أسر كاملة تتوارث الإبداع ، جيلاً بعد جيل، في مختلف البلدان العربية. وكانت تلك ظاهرة غير نادرة. إلا أنها اختفت الآن. فالأبناء لم يعودوا ميالين لتكرار تجارب الآباء، وباتوا زاهدين في ما كانوا منشغلين به من هموم.
ومن الأسر التي عنيت بوراثة الشعر، ولم تتوقف عنه، المعالفة اللبنانيون. سواء في أرض الوطن (زحلة، دوما، وبعض قرى بعلبك) أو في المهجر (البرازيل). وكان أول ظهور لهذه الأسرة في هذه البقاع نهاية القرن الثامن عشر. لكنها استطاعت أن تقدم للعربية عشرات الشعراء من الطبقة العالية حتى أحصى بعضهم 70 شاعراً معلوفياً ظهر جلهم في القرن العشرين. وعلى رأسهم الأخوة الثلاثة فوزي وشفيق ورياض أولاد العلامة عيسى اسكندر معلوف (ت 1956). وأخوالهم قيصر وميشيل وشاهين معلوف. وكان هناك جميل معلوف (ت 1951) الذي كاد أن يصعد أعواد المشنقة على يد جمال باشا السفاح عام 1916. ورشدي المعلوف والد الكاتب الفرانكفوني الشهير أمين معلوف، وغيرهم.
ولم يكن شعر هؤلاء مصنوعاً أو متكلفاً. بل كانوا مجددين ومبتكرين. وكتب بعضهم الشعر بأكثر من لغة. وكان خاتمتهم رياض معلوف الذي توفي عام 2002 عن تسعين عاماً، وله مجموعات شعرية عربية وبرتغالية وفرنسية. أما جيل الأبناء فأخشى أن تكون أصابته حمى قصيدة النثر، ولم يعد يسمع لهم صوت في أي مكان.
لا أعرف بم يمكننا أن نصنف القرن الواحد والعشرين هذا بعد أن مضى عقدان منه دون إضافة تذكر. فربما تكشف العقود القادمة منه عن مفاجآت غير محسوبة، مازلنا ننتظرها بفارغ الصبر. فالثقافة هي الوجه الآخر للحضارة، التي تراهن عليها الشعوب الراغبة في البقاء. وليست ترفاً فكرياً مثل ما يعتقد البعض دون وجه حق.
محمد زكي ابراهيم