عمار حميد مهدي
بين الشك واليقين يضعنا الكاتب الروسي نيكولاي غوغول من خلال حبكة سردية تأخذ شكل قصة قصيرة تعد واحدة من اعظم ما ترك من اعمال أدبية الى جانب عمله الخالد (المعطف) ، حبكة قصصية عنوانها (الأنف) يكشف فيها عن اشياء نادرة الحدوث في هذا العالم الذي يقول عنه ( انه عالم حافل بالحماقات المشينة للغاية ففي بعض الاحيان تقع احداث من النادر ان تعتقد انها ممكنة الحدوث ) والحدث النادر والغريب الذي يتحدث عنه غوغول هو ذلك الانف الذي يعثر عليه الحلاّق (ايفان يعقوبليفيتش) احد الشخصيات الرئيسية في القصة عند تقطيعه الخبز لتناول الافطار حيث يعثر عليه هناك بين شريحتين محشورا في وسطهما ليتساءل (يعقوبليفيتش) عن المعنى من هذا الحدث الغريب ولكن يبدو ان غوغول كان يريد القول ان الاجابة تتجلّى في رمزية الأنف من خلال تدخله في اعمق تفاصيل حياتنا اليومية وأهمها عبر العثور عليه (الأنف) داخل المنزل وفي وسط الخبز الذي يمثل في رمزيتهِ كذلك شريانا اساسيا لديمومة الحياة لينتقل بنا غوغول الى مشهد اخر يرجع فيه الى العلّة الأولى والحبكة الرئيسة للقصة، فيظهر لنا صاحب هذا الأنف ومالكه الشرعي (الرائد كوفاليوف) الذي يستيقظ من نومه ينتابه الهلع والخوف عندما لم يجد بدلاً من انفه سوى سطح منبسط ويعود بنا الكاتب الى تساؤلات الشك واليقين على لسان هذه الشخصية ( ربما كنت احلم، كيف اكون على هذه الدرجة من الغباء وأفقد أنفي؟).
تعتمد هذه القصة ثلاثة محاور رئيسة , المحور الاول كما تقدم هو العثور على الانف في غير مكانه المخصص له والمحور الثاني وهو الرئيس والأكثر اهمية هو البحث عن الأنف والمحور الثالث والاخير هو عودة الانف الى وجه صاحبه.
تتمثل أهمية المحور الثاني من القصة في مستوى الغرائبية العالي عندما يعثر (كوفاليوف) على انفه من خلال موقف بعيد عن كل الاحتمالات ويتناول غوغول وصف هذا المشهد بأدوات سردية عالية المهارة يركز فيها على تفاصيل المشهد السردي وإثارة الفضول عند القارئ من خلال ادخال عناصر سيريالية خيالية وواقعية في نفس الوقت فيقول عنه : فجأة توقف متسمّراً في بقعة من الباب الامامي لأحد المنازل وشاهد منظرا لا تصدقه عين ، اقتربت عربة من الرصيف ، فتحت الابواب على مصراعيها وقفز سيد في بزّة عسكرية وانطلق صاعدا درجات السلَّم ، انه شعور الفزع والدهشة الذي تملّك كوفاليوف عندما تعرَّف على أنفه.
ويجري الكاتب تساؤلاً آخر على لسان شخصية القصة (كوفاليوف) يتناول هذه الواقعية السحرية التي تميزت بها القصة ، كيف يستطيع أنف حقا كان بالأمس في منتصف وجهه ولم يكن بإمكانه ان يمشي او يسوق عربة ان يتحول فجأةً الى هيأة اخرى في بدلة عسكرية؟؟؟ والبدلة العسكرية التي كان الأنف يرتديها ترمز الى صفة المستشار في الدولة الذي يمثل مسؤولا رفيعا فيها ولعل غوغول كان يريد بذلك ان الأنف بإمكانه ومن خلال (تدخلاته) في شؤون الأخرين ان يصل الى اعلى المراتب في الدولة ويمارس عمله المعروف هذا كأنف كما ويؤكد الكاتب على استقلالية الأنف واعتباره كيانا قائما بذاته له رأيه وموقفه عندما يقول على لسان الأنف في حوار يجري مع كوفاليوف (انا شخص لي كياني الخاص!) اي انني منفصل عنك ولا ارتبط بك بأي شكل من الاشكال وهذا ما يمنح الأنف دونا عن باقي كيان الانسان صفته المميزة في تدخله بشؤون الاخرين.
الملاحظ في هذه القصة ان غوغول قد ابتدأ لحظة العثور على الأنف محشورا في الخبز بتاريخ حدده في الخامس والعشرين من شهر مارس ثم حدد تاريخ عودة الأنف الى وجه (كوفاليوف) بتاريخ السابع من أبريل وهذا يعني ان الأنف قد بقي طليقا حرا يجول لمدة ثمانية عشر يوما ولم يذكر لنا غوغول على وجه التحديد ما الذي فعله الأنف في تلك الفترة بالتحديد سوى في مشهد سردي واحد وهو لحظة عثور (كوفاليوف ) عليه ودخوله الى الكنيسة والحوار الذي جرى معه هناك تاركا بقية ما يمكن ان يفعله الى ذهن القارئ ليبحث فيه بل وربما يجعله يتساءل ماهي وكيف يمكن ان تكون المواقف التي صادفها الأنف وإن كان هناك احتمال في تدخله بشؤون العديد من الناس وقد يكون من ضمنهم القارئ نفسه في وقت من الاوقات؟!
لكن غوغول يؤكد ان في هذا العالم تحدث امور غريبة لا يمكن فهمها منهيا قصته بعدة تساؤلات يشير فيها الى ان معظم الاحداث الغريبة تكون فوق الادراك ولا يمكن فهمها على الاطلاق ولا فائدة من تفسيرها ليقول لنا في النهاية اننا لو توقفنا لبرهة فإن هناك ذرة من الحقيقة في هذه الاحداث مهما كانت نادرة الحدوث التي يعترف انها يجب ان تحدث.