علي لفتة سعيد
يتّسع عنوان المجموعة القصصية للقاصة مها الغنام (أحلام مرتبكة تتسكع في شوارع المدينة ) ليكون حامل المعنى عن كلّ التطورات التي تلاحق الشخصية الباحثة عن عملية الاستقرار النفسي والمقاربة مع مجريات الأحداث سواء تلك الاجتماعية أو السياسية أو ما تعانيه المرأة من حيثيات الوجود ومقارنتها بالواقع. فالعنوان الذي انفرش ليكون ستّ كلمات جاء ليحتوي القصص الستة عشرة المتكونة عناوينها من كلمةٍ واحدة باستثناء قصتين تكونتا من كلمتين.. وهو ما يعني أن العنوان يحمل الكثير من علامات القصص الأخرى وهو بوابة الدخول الى مدن القصص الأخرى التي تريد فكّ تلك الروابط المتعالقة ما بين الفكرة والغاية، وما بين المآل والمقصد، وما بين البداية والتأويل.. ولهذا فإن القصص لا تجترح منطقة خاصة وخالصة، بل تجترح إمكانية استخلاص التأويل من شبكة القصديات التي تبثّها القاصة في روح نصوصها التي تغلّب عليها التدوين الطبيعي المعتمد على الفكرة واللغة البسيطة المراقبة الملاحقة لحدث التي تقوم به الشخصية المنبثقة أو المستلة من الواقع الذي يتحرّك على بقع أمكنة مسماة من الواقع المصري وحاراته ومواقعه المشهورة.. ولذا فان الفكرة لا تأتي برسمٍ مسبق لكي تكون كلّها وفق بنائية تدوينية واحدة، بل تركت التدوين ورسمه بحسب الفكرة، لذا كانت أغلب القصص بضمير المتكلّم الذي يتيح لها التعبير الدقيق عن الداخل المراقب والمعذّب، في حين هناك قصة واحدة تداخل فيها الغائب مع المتكلّم في قصة جنة وأربع قصص كانت بضمير الغائب، وكأنها تريد مراقبة الخارج لشخصيات القصص عبر مدوّنة اجتماعية.
إن بنية الكتابة في هذه المجموعة تبدأ باستهلالات تصويرية لمشاهد تأتي محمّلة بالواقعية سواء واقعية الأماكن أم الشخوص أم واقعية الحكاية ذاتها التي تكون مستلة منه وإليه وذاهبة نحو استخلاص معانيها.. وهذه الاستهلالات منذ البدء تحمل أسئلتها معها فيما لو أراد المتلقّي أن يبدأ باستخلاص المستوى التحليلي لما ذكر في القصص.. وهو مستوى جعلته القاصة هو الغاية المراد الوصول إليها عبر الحبكة التصاعدية للعنصر الدرامي الحامل لفكرة القصة.. بمعنى أنها تنطلق بفكرتها لكي لا تكون عبارة عن حكايةٍ بقدر ما تكون محمولة على عدة تحليلات تأخذ على عاتقها مهمة استخلاص الإجابات من الأسئلة التي تم وضعها داخل المتن على شكل ألواحٍ معلقة ليتمكّن المتلقّي من رؤيتها، بل إنها جعلت إهداءها على شكل سؤال (إلى أحلامي المستحيلة/أين ستهربين منى يا مسكينة؟!!/سأطاردك ما حييت ) وهو ما يلخص القصديات العديد داخل النصوص لربطها بقصدية العنوان وحتى قصدية الإهداء الذي تحوّل الى عتبةٍ أخرى من عتبات النصوص.
ان بنية الكتابة تأخذ ذلك البعد التصاعدي في الحدث عبر لغةٍ هادئةٍ مناسبةٍ متقطعةٍ تارة أو متصلة في المتن سرديا تارةً أخرى.. فهي أي القاصة تريد للقصة ألّا تبدو وكأنها نقل الواقع و معاناة والبحث عن أحلام ومتابعة ونقل جزيئيات الذات الأنثوية أو محمولات الصراع الاجتماعي أو حتى الأسئلة التي تبدو هي الأساس في عملية التلاقي ما بين القصديات وعمليات التأويل التي يبحث عنها المتلقّي أو التي تريده أن يصل لها عبر فكّ الشفرات.. فاللغة هنا تبدأ من الاستهلال الى نهاية القصة بذات الطريقة التي تعطي مدلولها بوضوح لكي تتم ملاحقة الدال مثلما يمكن قلب المعادلة في بعض النصوص الى عملية إعطاء الدليل للبحث عن المدلول
(أنا راقصة باليه كما تعلمين، كل شيء في حياتي منضبط بشكلٍ ممل ..مواعيد نومى ..استيقاظي ..السعرات الحرارية التي أتناولها، لا أذكر آخر مرة تمنيت فيها تناول قالب من الشيكولاتة وحصلت عليه، عندما خرجت مع صديقاتي القدامى كلهن تناولن الأيس كريم ماعدا أنا، صحيح أنا فراشة بالمعنى الحرفي أطير، أحلق، قدمي لا تكاد تلمس الأرض، ص ) .
(في مقهى البن البرازيلي تقابلنا، احتسى قهوته الفرنسية بدون سكر واحتسيت قهوتي مع قطعة تشيز كيك، أصررت أن أُحضر له قطعة مثلى فرفض ص ).
إن هذه المختصرات القليلة من اللغة والتقابل الثيمي لا تجعلها القاصة تأخذ البعد الواقعي في عملية التدوين، بل تجنح في الكثير من الأحيان الى مقابلة السرد بالحكاية عبر عملية مغايرة للتغريب الى عملية التلاعب في اللغة السردية في محاولة لبثّ المستوى التشويقي في عملية التلقّي:
(على الكرسي الهزاز جلست فنظر إليها ثم إلى الكتب المتراصة فوق مكتبه وكأنّه يدعوها لتقرأ ما تشاء، استجابت بسرعة مضت ساعات. أغلق الباب من تلقاء نفسه، نظر إليها مطمئناً نظرت في المكان وجدت في الحائط المقابل للباب شباك به عصيان حديدية متوازية يسمح بدخول الهواء وخروجه من الغرفة، كان الظلام دامساً لكنّها رأت أشعة متراقصة تلاحق بعضها ص ).
ان واقعية الفكرة وواقعية التدوين لم تكن هي الهدف في هذه المجموعة، بل كانت القاصة تركن الى بنية كتابية تجعل من هذه النصوص الواقعية قابلة للتمرّد على النسق التعبيري المباشر في الحكاية الى تلاعب النسق التدويني في السرد، وهو ما جعل القصص لا تأخذ أبعادًا تدوينية واحدة، بل في عملية تغيير مطلوب بحسب الفكرة وحسب الشخصية وحسب المكان، وبالتالي بحسب الأسئلة التي تريد طرحها سواء على شكل سؤالٍ مباشرٍ أو عن طريق حصد التأويل عبر سؤال يطرحه المتلقّي هل ما تم قراءته هو واقع أم مخيلة واقعية ام واقع متخيل وهل هو قريب من سؤال غائب ليضع الإجابة الحاضرة.