الدار الآخيرة وحلم نيرون
روما: موسى الخميسي
جزء من سكن الامبراطور، او جزء من البيئات الموحية من قصر الامبراطور (نيرون37م-68 م) على احد الهضبات السبعة التي بنيت عليها روما القديمة، وهي «البلاتينو» يفتح ابوابه هذه الايام للجمهور بعد عملية استعادته، عبر الحفريات ومستلزماتها وثمراتها، التي استغرقت اكثر من خمس سنوات، وبذلك سيكون جزءا لا يتجزأ من هضبة «روملو» ومن الفضاءات القابلة للزيارة من الحديقة الاثرية (الاركيولوجية) لمبنى ملعب الكولوسيوم الشهير. ان رد هذا القسم من من قصر نيرون الى الجمهور يراد منه ان يكون مقدمة للمسار النيروني، هذا الامبراطور الذي اتصف بالبذخ في كل شيء بما فيه الابنية التي كانت فوق هضبة «البالاتينو» وسائر ما تبقى من ‹الدار الذهبية› على هضبة «اوبّيو» ليوفر هذا المشهد التاريخي للزائرين الذين جاءوا من كل انحاء العالم ليروا بعيونهم احدا المسارات الاخّاذة لروما القديمة.
فلنتخيل نيرون واسمه الحقيقي (لوتشو دوميسيو إنوباربو المشهوربنيرون بمعنى القوي) يشاهد ممتلكاته من اعلى هضبة «رومُلو» في وسط مدينة روما: تلك الاراضي الخصبة والجميلة هي له ولذلك فان بصره يطال ما يقابل الهضبة، ونعني بها بساتين ماشينات (التي ورثها عن خاله الامبراطور كاليغولا الذيأنفق أمواله في الخلاعة والمجون والملذات وسادت لديه رغبة جامحة في تعذيب معارضيه ) . فكل ذلك هو في حوزته. ومن ثمة فبامكانه ان يفكر فيما هو كبير. وهكذا ولدت لديه فكرة «دار النقلة» او الاقامة الفخمة التي يراد بها ومنها الجمع بين الهضبتين المتقابلتين والمفصولتين بمركز المدينة التاريخي» الفورو» وبمكان منخفض ،وهو الفضاء الذي بني فيه فيما بعد مبنى ملعب «الكولوسيوم» الشهير الذي يقع حاليا في قلب مدينة روما.
كان نيرون شخصا حالما؛ اذ كان يحلم بالسكن في مدينة روما كلها. فكان يريد ان يجعل من المدينة دارا له، اي انه كان يرغب في تحويل روما الى سكن خاص به. والشهادة التاريخية يوفرها لنا عدد كبير من المؤرخين الايطاليين الذين وثّقوا لنا الكتابة التي شوهدت محفورة على اسوار المدينة: « ستصبح روما دارا لنيرون» . ولما اصبح نيرون امبراطورا سنة 54 ميلادية شرع في تحويل روما الى سكن شخصي له. وساعده في ذلك الدور والاراضي التي ورثها، على احدى هضاب روما الشهيرة» اوبّيو» التي هي جزء من هضبة «الاسكويلينو»، امام هضبة «البلاتينو» (حيث القصر الامبراطوري) ؛ اي تلك الرقعة الخضراء من الارض، الغنية بدورها الجميلة وبالمياه، كانت موضعا مثاليا لحلمه.
دارا عجيبة وغريبة غيبتها فخامة اختها› او «الدار الذهبية» النبيلة التي بنيت بعدها اثر انمحاءها. ذلك ان «دار النقلة» اندثرت في القرن الاول في حريق سنة 64 م الذي خرب وحطم روما؛ وهي من ابشع جرائمه على الإطلاق كان حريق روما الشهير حيث راوده خياله في أن يعيد بناء روما، وبدأت النيران من القاعدة الخشبية للسيرك الكبير حيث شبت فيها النيران وانتشرت بشدة لمدة أسبوع في أنحاء روما، وألتهمت النيران عشرة أحياء من جملة أحياء المدينة الأربعة عشر. وبينما كانت النيران تتصاعد والأجساد تحترق وفي وسط صراخ الضحايا كان نيرون جالساً في برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق الذي خلب لبه وبيده آلة الطرب يغنى أشعار هوميروس التي يصف فيها حريق طروادة . ثم ساهم الناس والتاريخ في اسقاطها في المهواة السحيقة للنسيان. اذ حتى الكّتاب القدامى تجاهلوا امرها، اما الفلافيون (الذين حكموا روما من بعده) فقد بنوا فوقها قصرا وبذلك يمكن ان نقول بانهم قد ختموا عليها لتظل في الغائب المغيب لعدة قرون لاحقة.
الا ان المؤرخ اسفيتونيو لم ينسها بل قد سلم الى الباحثين اثر البحث عنها اذ يقول بانه « لم يكن نيرون اكثر شيئا ضررا في غير البناء: لقد بنى دارا، تمتد من القصر الامبراطوري الى هضبة «الاسكويلينو» سماها اول الامر بـ»دار النقلة» فهذا ما نقراه، فيما تركه لنا ذاك المؤرخ فيما يتعلق بذاك السكن الامبراطوري فاصبح المصدر الاساسي الذي يشتف منه وجود «دار النقلة».
وانه لغريب قدر تلك الدار التي سبقت «الدار الذهبية» التي هي مدينة لدار النقلة ايما دين اذ لو لم توجد الاولى ربما لم تكن لتوجد الثانية ابدا. بل الامر اكثر من ذلك بكثير اذ ان تلك الدار قد اظاهر عليها دافنان : دفنتها الارض ودفنتها الذاكرة سيما وانها لم تظهر من جديد في دراسة الاركيولوجيين الا منذ اقل من ثلاثة قرون. ففي سنة 1721 كشفت حفريات الفرنسيين عن ‹حمامات ليفيا› التي سميت بهذا الاسم لان اثار البناء عدت خطأُ ناقلات للماء. ثم وجب انتظار سنة 1929 حيث تمكن الاركيولوجي البريطاني توماس آشبي من نسبة بيئات وبنايات اخرى اكتشفها جاكومو بوني بين 1910 و1914 الى السكن الامبراطوري: اي الدار الممتدة من القصر الملكي الى «الاسكويلينو».
فموضوعيا يتعلق الامر بقطعة من سكن نيرون الفخم الذي يعد استلهاما (ونسخة) من القصور الملكية لبطالمة اسكندرية مصر، للفراعنة، الا ان الرسوم التي لا تزال موجودة في الاسقف المقوسة، والفسيفساء التي لا تزال لاصقة ببنيات الجدران والتي لا يزال المصلحون والمرممون من تقنيّي الاثار ينعشونها وينفخون فيها روح الايحاء بالحياة هي عبارة عما تبقى من تلك الاسرّة الثلاث التي كانت تحيط بـ «مائدة» الاكل من ثلاثة جوانب والمصحوبة بنافورات ومجاري المياه. فعل كل ذلك يساهم في رد ما يوحي به المكان.
انه مكان يقبل الولوج فيه عبر سلم، من ثمانية امتار، نازل تحت الارض . يجد الزائر نفسه تحت «دار فلافيا» التي بنيت فوق «دار النقلة» التي صارت في باطن الارض دفينة تحت ملاط التي فوقها مباشرة اثر الحريق الذي شب في روما النيرونية. ويبدو محتملا ان مركز البيئة ووسطها كان جناحا صيفيا باجزاء خارجية ذات سعة الا ان اساس الدار التي بنيت فوقها تقطع البنية الا ان النافورات التي كانت تزين ثالوث الاسرّة يمكن رؤيتها وعلى الاسقف المقوسة كالدنان تظهر لنا بعض المشاهد الجميلة الالوان المختلفة من الاصفر المشرب بحمرة الى الذهبي والعاجي. كما نجد فتحات واسعه في الجدران تذكران بمجاري المياه التي كانت كالاودية الصغيرة التي تشق البنايات الامبراطورية. اما في الغرفة الكبيرة فنجد عروسا من عرائس الميثولوجيا الاغريقية بنافورة وبجانبها بيئة اخرى باسقف مزينة. اما البيئة الثالثة فكانت مخصصة لحاجات البدن (مبولات عامة) وبامكانها ان تسع خمسين شخصا في نفس الوقت ويمكن ان تقص لنا نمطا مختلفا، وبعيدا منا وعنا، لعيش لحظات الخصوصية. كما تروي لنا الحاجة الى توفير خدمة ضرورية الى عدد كبير من الاشخاص في نفس الوقت. ويمكن ان يكون ذاك المكان قد استخدمة العمال والتقنيون الذين كانوا يبنون تلك الدار نفسها. وتقول لنا مديرة الحديقة الاركيولوجية السيدة روسّو « ان هذه البيئات الموحية من القصر الامبراطوري، على هضبة البلاتينو حيث تجري المياه في كل مكان عبر النافورات والقنى وشبه الاودية الصغيرة، قد جعلت ايضا من اجنحة خارجية بمساحات خضراء، غابات ومراع، هذه البيئات كانت معروفة باسم «حمامات ليفيا» لخطإ في تاويل الماضي. سيما وان اكتشاف الرخام الثمين واعمدة الرخام السماقي وتيجان الاعمدة النحاسية المذهبة والرسومات دفع بالفرنسيين سنة 1721 الى الطغيان في الحفر والى عمليات نهب ؛ اذ نهبت الرسومات واقتلعت الاعمدة».
فخامة نيرون التي استلهمت من معماريات الفراعنة الشرقيين ومن قصورهم الملكية التي تحتل مدنا بكاملها ادهش كثيرا مكتشفي القرن الثامن عشر مما جعلهم يحملون بطريقة عنيفة ونهائية كل ما استطاعوا بانتزاعه من السُّقُف والجدران. في مناسبة فتح «دار النقلة» للزائرين تعود اليها من مدينة نابولي بعد 300سنة رسومات وجداريات ذات مشاهد ملحمية انتزعت من السقف النيرونية. وستكون هذه الاعمال سلفة ذات مدى زماني طويل وثمرة للاتفاق بين المتحف الاركيولوجي الوطني بنابولي والحديقة الاركيولوجية كما انها تبدو للزائر جزءا من المسار الذي توفرهذه المشاهدة. والمرممون الايطاليون برعوا على انعاش الرخام الذي شغف به الامبراطور وذلك من خلال ابراز الالوان الرباعية النيرونية او الاصفر المشرب بعروق حمراء، الابيض المتباهي (من تركيا)، احمر الرخام السماقي من مصر واخضر الرخام السماقي ايضا المجلوب من صخور سبارطة في اليونان .
لا يمكن ان تنسى العلائق التي تحيل من الدار الاولى الى الدار الثانية النيرونيتين. وختاما نرى لزاما علينا ان نقول ان سياسة البناء، ككل ضرب من ضروب السلطان السياسي، تخفي ايديولوجيا لنموذج الحكم الفردي الاستبدادي ، وهو نموذج ترفضه المدينة (روما) معتبرة امبراطورها مجنونا.