القسم الأول
ناجح المعموري
قراءة الكتاب بشكل دقيق ، ستفضي الى معلومة جوهرية ، لها دور مركزي في اقتراح مجال للتلقي مهم ، وهي الفراغ في الصورة الذي اتسع حضوره كثيراً وتعددت أشكاله وتحول الى ظاهرة بنائية ضمن مجال المكان . وأكثر الفراغات جذباً للمتلقي وتأثيراً عليه هي فراغات المكان المقدس لأنها مستدعية الهدوء والأمان والاستقرار ، والسعي لتوليد نوع من الوساطة غير المباشرة بين الكائن والمقدس ، يمنحه توفراً علاجياً ، روحيا ونفسياً ، يلعب دوراً اشفائياً بارزاً ، لذا كان الاسترخاء التجاور مع القداسة قصدياً ، مختماً سيفضي ليونة الجسد والاستقرار والنوم . ونحقق نوع من أنواع الرضا التام والتفاني بفضاء المقدس والالتصاق بسرقة الرمزية المسكونة بهيمنة المقدس . وهذا ما نلاحظه في الصورة رقم 18 حيث استراحة عدد من الرجال ، بينهم طفل والاسترخاء والنوم وقد أعلنوا أيمانهم المطلق بقداسة المكان والالتزام بضوابطه الموروثة الحاضرة دوماً ، مثال ذلك الحفاء والفراغ في هذا المكان المقدس ، لا يعني تضاءل العلاقة به ومعه.
اعتقد بأن فوتوغرافيات رفعت الجادرجي مقروءة بصيغتها الواقعة ، المرئية ، المعروفة ، وعلى الرغم من أننا لا ننفي ضرورات آنية ملحة لالتقاط الصورة ، لكن رفعت يخضع الصورة التي يريد ويفكر بها ، الى جهد يتمثل باقتراح مجالات بنائية / فوتوغرافية ، وانثربولوجية عليه أن يخفقها ، من هنا تكون ملتقطات رفعت الصورية مدروسة معمول عليها كثيراً وبدقة ، فلا يلتقط الصورة إلا في اللحظة التي توفر له ما يحكم به تخيّلاً ، لخدمة حاجاته الثقافية . وأؤكد بأنه فنان فوتوغرافي يشتغل على وفق خطة انثربولوجية ، كذلك يذهب باتجاه اقتراح تنوعات عديدة للمجال الواحد .
يرى الفنان رفعت المشهد الخيالي وسط مكان مقترح وخاضع للعمل وأجراء تطبيقات عليه بواسطة الكاميرات مرات عديدة . وهذا تعلن عنه الصورة المشحونة بالدقة والذكاء والتأني في اللحظة المقترن بها القرار والمتضمن التقاط الصورة الكفيلة بالإعلان عن زمن اللحظة والكشف عن المكان وزحمته ، وأي هو المراد ، المكان المزدحم ، أو المكان الفارغ أو فيه سيادة النوع من الفراغات مثلما اتضح ذلك في كثير من فوتوغرافيات رفعت الجادرجي.
شعرية الفراغ
صور المكان المقدس وحركة الأفراد فيه وشعرية الفراغ ، كلها ليست بعيدة عن الطقس والشعائر والسرديات ، بوصفها هذه من حيويات الخصائص الدينية ، إذا أضفنا لها المعتقد . ولم ينس رفعت الجادرجي العقائد الشائعة حول سلطة المقدس وما يتناقله الأفراد عن طاقته في الاشفاء الخارق والغريب ، لذا قدم لنا صورة الشابة الممسوسة المربوطة الى شباك الاضرع المقدس وامها المفجوعة بفقدان ابنتها وخسارتها لها « جنونها « جالسة محبطة ، خائبة ، يائسة لكنها تحدق بالشابة المسكينة ، المنتظرة فعل المقدس حتى يعيد إليها توازنها ويطرد الشيطان ويمنحها يقظتها ، المتسلطة اليها من بركاته .
كل تنوعات الفوتوغرافيا الكتاب في صحن الإمام الكاظم ، ليست اعتباطا ، بل هي أكثر مما ذكرت . فالمكان المقدس في الفوتوغرافيا مركز العناية والاهتمام بعد أن توفرت عين الفنان على دراسة طويلة ومتكررة ورصد ولامساك بكل الاحتمالات التي توقع الحصول عليها في زيارة ثانية / وثالثة . واتضح لي من خلال تنوعات الفوتوغرافيا وسط صحن الإمام الكاظم أن رفق الجادرجي جعل منه سرة للعالم البغدادي كله وهكذا هو دائماً المقدس في اختياراته الحيوية في المكان الذي يختاره ولا يكف عن التعامل واياه باعتباره مغذياً للعالم في المكان الأوسع والكلي ، أي بغداد كلها عندما كانت بمساحتها لحظة التقاط الفوتوغرافيات للصحن الكاظمي المقدس وهو الآن سرة للمكان البغدادي مع كل توسعاته . يبقى كذلك مانحاً للروح الحة ، المتحركة ، المطلقة التي يحركها المقدس ، وسيرة المكان رمزية عالية ، لا تتحدد بإطار للمكان ، بل حاضرة على سعته ومتواجدة فيه تتمتع بطاقة الحضور الطقوس والسحري . فالسرة هي المانحة والتي لا تكف عن العطاء عبر التاريخ ابدا . بل هي باذخة بالكرم والتغذية حتى تساعد وحدها المقدس بالنمو والتصاعد والتوسع وبهذا كله تتحول الى ذاكرة للمكان ، وتغذيه أساطيره ، وشعائره وتؤطره بصور هائلة من التصورات «الآتية من الداخل».