الهدية

وهاب كاظم حمزة

كان صغير الأثير ثمرة فؤادي الذي فيه الكثير من الأسى عليه عندما أراه وقد ذوى البؤس وجهه الطيب الجميل؛ يبوح لنا بكل مشاعره عندما ينضم الى جلساتنا وينخرط معنا في الحديث، الا انه يبدو هذه المرة من عينيه العسليتين الذكيتين المحاطتين بهالة سوداء التي تطل منهما نظرة مشوبة بالقلق, انه حريص على شيء ما ويحتفظ بسر هام للغاية ولم يرغب البوح به عندما أضحى لديه ميل غريب لمراقبة الغرفة التي ينام فيها والتردد عليها باستمرار؛ تلك التي أصبحت أجمل مكان لديه الى درجة أثار استغرابنا أنا وأمه لأنها صارت جزءاً من عالمه الصغير الذي يتسلى فيه بالرغم من غياب التلفاز فيها الذي كان يرابط أمام شاشته أثناء وجود التيار الكهربائي لمشاهدة أفلام كارتون التي ينشدها, تصرفات بريئة لا يعكر صفوها الا صوتنا عندما نناديه لتناول الطعام معنا, ولم يقتصر الأمر لديه عند هذا الحد بل دائماً يستل نفسه عندما ننتهي من ازدراد الطعام المنزوع من أنياب الحصار الذي فتك بالألاف من العراقيين الذين كتب عليهم الشقاء وذاق مرارته ولم يبلغ بعد السنتين من عمره.
ولم يزل الجوع يقرصه حين يمضي بخطواته المتأنية الحذرة والمتلصلصة؛ يلتفت الى الوراء عدة مرات خوفاً من أحد يتعقبه وبنظرة خاطفة يرمقنا بها قبل أن يدلف الى الغرفة التي لم يمكث فيها الا دقائق معدودة ثم يطل علنا ثانيةً ووجهه ينطق بالفرح على نحو تملأ كيانه الغبطة وقد طاب لنا أن نراقب حرصه وما يؤنس وحدته؛ وكلما حاولنا بدافع الفضول والاستطلاع والملاطفة أنا وأمه أن نعرف ما يخبئه, بفرع شديد ينطلق فرزدق ذو الربيع الخامس بعد أن يطلق العنان لساقيه النحيلتين ويندفع الى الغرفة ويثب على فراشه كالشبل الذي يتمسك بفريسته بمخالبه المغروسة فيها قبل أن نصل اليه محتضناً بكلتا يديه وبقوة وسادته ضاغطاً عليها؛ وبنصف التفاتة من رأسه وهو مستلق على صدره وقدماه باتجاه النافذة, ينظر الينا بارتياب بعينيه الحادتين ولم يستطع كتمان غضبه عندما نقسو عليه بمزاحنا صارخاً بوجوهنا بملء فمه بصوت حاد يتردد صداه في أرجاء الغرفة التي لم يبق فيها ثمة شيء ذا قيمة يلفت الأنظار لم يُبع لتأمين طعامنا الذي يبقينا على قيد الحياة لعدة أيام بعد أن أصبح راتبي لا يؤمن قوت يوم إلا سريره الذي يعتز به والذي فقد مع الزمن الكثير من طلائه فبان خشبه.
-»عبثاً ما تسعون اليه، لا أسمح لأحد أن يدنو منها؛ انها هدية أخي مهند سأقدمها له عندما يعود مجازا من وحدته، ينبغي عليكم أن تكفوا عن البحث عنها». فما كاد فرزدق يأتي على نهاية هذه الكلمات التي أطلقها بتذمر ودون أن يتلعثم أو يبتلع ريقه وهو في حالة من الغضب الشديد؛ ننحني أنا وأمه عليه، نغطي وجهه الملائكي بالقبل السريعة؛ وبلمسات حانية بيدينا نمسد جدائله الذهبية وهو يتفادى النظر الى ابتسامتنا التي لم نستطع مقاومتها، عندئذ أتأمله وأذهب في تفكير بعيد؛ أبعد من هذا الموقف وينتابني شعور بالحزن عندما أخاطب نفسي سائلا اياها: هل أستطيع أن أوفر لفلذة كبدي تعليما جيدا مثل أخيه ليصبح انسانا نافعا في المجتمع في ظل هذه الظروف الصعبة؟
لا أخفي عليكم؛ لقد كانت عيناي مثقلتان بالدموع، عندما تصورت ابني فرزدق سيلحق به نفس المصير المؤلم لأولئك الأطفال الذين يتركون مقاعد الدراسة نتيجة حاجة عوائلهم المادية وينخرطوا في سوق العمل فتبتلع طفولتهم البريئة الأسواق والشوارع. يا لها من معاناة قاسية، تلك التي عانى منها أولئك الاطفال!
لا اود أن أمضي بعيدا جداً في صنوف معاناة العراقيين؛ لأنني من اجل تحقيقها يلزمني من الورق أطنان، ناهيك عن الألم الذي أشعر به نتيجة ما حل بهم من مصائب وأحزان؛ لذا أختصر الأمر بالحقيقة التي يعرفها الجميع؛ ما الذي يحدث للبلاد عندما يصل الى سدة السلطة فيها نظام سادي بشع!!, أليس سوى الخراب والدمار والمآسي واهدار كل ما هو كريم في الانسان.
في كل جولة من هذه الجولات لا نغادر الغرفة قبل أن تهدأ ثائرته ويثوب اليه الهدوء بكلمات التجليل التي نطلقها بكل سخاء الى أن تلين ملامح وجهه، وتنفرج أساريره، ويحس بالسكينة والطمأنينة وقد تغلغلت الى أعماق نفسه؛ بيد أنه ليس من الصعب علينا معرفة الهدية التي أضحت أجمل متعة يتسلى بها، بعد أن استهلكت الكثير من وقته وهو في غاية السعادة.
ودون مزيد من الجدل بشأنها قر رأينا ألا نفسد عليه فرحته حيث نترك الأمر ريثما تحين الفرصة للتعرف عن كثب عليها؛ عندما نشاركه فرحة الاحتفال بتقديمها، فهذا ما يروق له.
كان هذا ديدنه في كل يوم من تلك الأيام التي كنت أتمتع فيها بإجازتي السنوية، لا يكف فيها فرزدق دقيقة واحدة عن الحديث عن تلك الهدية التي أصبحت مثار اهتمامه ومبعث السرور في نفسه، علاوة على ذلك يمطرنا بوابل من الأسئلة بنبرة متلهفة.
-»بابا، متى يحين موعد اجازة أخي؟»
ثم يلتفت الى أمه سائلاً اياها.
-»ماما، هل يصل مهند الينا صباحا أم في المساء؟»
ويعود يشغله السؤال عنه، حتى إذا حل المساء وقد استبد به التعب، يتناول وجبة العشاء ويذهب الى فراشه؛ وقبل أن يرقد يدس يده تحت الوسادة يتحسسها بأصابعه عند ذلك يتلاشى الخوف لديه، فيتدثر بدثار الأمان؛ وجفناه قد أسبلتا للكرى وافترت شفتاه عن ابتسامة لا ارادية، وقتها يغط في نوم عميق.
من أعماق الليل انطلق أذان الفجر؛ في يوم كانت الرياح تنذر بقدوم الشتاء, استيقظ فرزدق من نومه مبكرا على غير عادته, بعد أن انتابه حدسه الذي لا يخطئ؛ لقد أذن موعد اجازة أخيه, ماهي الا ساعات وتتحقق الأمنية التي طالما حلم بها, وهي تقديم أثمن شيء لديه لأخيه مهند؛ وبعد أن فرغنا من صلاة الفجر أنا وأمه التي لم تتوقف عن التمتمة من أعماقها والدعاء من كل قلبها؛ رافعة كفيها للسماء وهي تناجي الله بسلامة الوصول لابنها, تناولنا معا طعام الافطار؛ وفي غضون ذلك ما انفك فرزدق من مراقبة باب الدار؛ ويطيل النظر اليها بعينيه المكدودتين من فتحة باب المطبخ المواربة بذلك الشغف البادي على محياه.
وقبل أن تصل الشمس التي استيقظت متكاسلة في ذلك الصباح الى كبد السماء, ترامت الى سمعنا طرقات على الباب بإيقاعها المعروف الذي خبرته؛ أحسست بالفرح يجتاح قلبي, حالما سمعها فرزدق؛ من فرط سروره دفع بيده باب المطبخ ليفتحه وجرى بأسرع ما يستطيع في الممر المواجه لها, متوجها كالشهاب الى باب الدار ونحن نتبعه؛ وحين بلغها سحب المزلاج بقوة فانفتحت على مصراعيها وأطل منها وجه أخيه الذي يعلوه الهزال والضعف وقد تهلل بابتسامة حب واشتياق؛ وفور أن شاهده مهند جلس القرفصاء واحتضنه بحنان بين يديه وأخذ يلثمه بالقبلات وفرزدق يتشبث به وقد طوقه بذراعيه وقرب فمه من أذنه وهمس فيها وكأنه يخصه بسر ما, وبعد أن فرغ من لقاء أخيه همّ مسرعاً الى داخل الدار, وفي تلك اللحظة المفعمة بحرارة اللقاء مع ابننا مهند والسرور الشديد يغمر قلوبنا, قفر فرزدق عائداً وهو يخفي يديه وراء ظهره ووقف أمام أخيه بملابسه الحائلة الوانها, وكانت عيناه الصافيتان تنظران اليه بإستقامة وقد ازدادت اشراقا ولمعانا وانفرجت شفتاه عن بسمة وديعة؛ ثم قال لأخيه بصوت غلب عليه الحبور: «في ظنك ماذا أخبئ وراء ظهري؟»
وبعد أن تأمله مهند ملياً بعينيه اللتين تشعان بالفرح، ابتسم في وجهه ثم أجابه بشيء من الارتباك: «لا أعرف». ثم قال له فرزدق بابتهاج: «إنها أثمن هدية، لقد بذلت جهداً كبيراً كي أحتفظ بها؛ لقد حان الآن موعد تقديمها لك»، فمدّ يده صوب يد أخيه ووسط دهشتنا بعد أن خيّم على المكان صمت مطبق واغرورقت العيون بالدموع، وبقلوب مكسورة يعتصرها الألم تفتتت قطعـة الخبـز في يد مهند الى أجزاء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة