د. عبد الكاظم جبر
يذهب الدكتور شعبان صلاح في كتابه (شعر أبي تمام دراسة نحويّة)؛ إلى نوعٍ من الافتئات في عدد من القضايا التي نصّ عليها وتناولها بالبحث والمفاتشة، مع أنه، في جلّ ما كتب، كان بارعًا ملمًّا بأبرز القضايا النحويّة التي تستفزُّ القارئ، وقد نظر فيها، وأحسن وصفها ومعالجتها والتأتي إليها.
ومن بين تلك القضايا التي عُقد عليها الكتاب، استعمال أبي تمام لـ (كابر) بمعنًى، رأى الأستاذ أنه مستحدث جديد، في قوله:
قـــــــد كابر الأحداثَ حتّى كذّبتْ
عـــنهُ، ولكـــــــنّ القضاءَ يُكابِرُهْ
إذ هو بمعنى غير المشاركة، والألف في (كابر) للمشاركة، كما يرى، يقال: كابر فلانٌ فلانًا طاوله بالكبر، وقال أنا أكبر منك. وكابر فلانٌ فلانًا على حقّه جاحده وغالبه عليه، وكابره في الخبر أو الحقّ عاند فيه. ويذكر الأستاذ أن صيغة هذا الفعل، في هذا البيت، لم ترد بهذا المعنى في ما اطّلع عليه من مصادر، فعدم دلالتها على المشاركة معنى جديد مستحدث، ويردف أنّه – مع ذلك- أمرٌ تقرّه اللغة ولا تنكره، فأبو تمام قاسه على أفعال أخرى جاءت فيه صيغة (فاعل) غير دالة على المشاركة، مثل : قاتله الله، وسامحك الله ، وفلان يلاحظ الأمر، ونحو ذلك.
ولكن صيغة (فاعل)، من حيث الأصل، ليس شرطًا أن تكون بمعنى المشاركة بين طرفين، إذ قد ترد بمعنى (الموافاة) وحسب. ومن ذلك أنه ثمة من أشكل على المشاركة التي تحققها صيغة (فاعل) في قوله تعالى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى) في قراءة الجمهور، فقد اختار أبو عبيدة (وعدنا) التي هي قراءة شيبة بن نصاح(ت 130هـ) وأبي جعفر(ت 132هـ) وأبي عمرو(ت154هـ)، وأنكر قراءة الجمهور!، إذ المواعدة لا تكون إلّا من المتكافئينِ، وليست ثمة مكافأة بين الله والبشر، ومنهم موسى(ع)، فهو (تعالى شأنُه) المنفرد بالوعد والوعيد. وغلّطه أبو جعفر النحاس، فذكر أن المواعدة هنا من باب (الموافاة) ، وليست من الوعد والوعيد في شيء. وعليه تكون صيغة (كابر) بمعنى الموافاة لا بمعنى المشاركة ، والركون إلى أصل محقَّق خير من الركون إلى نظر مفترض!.
ومن القضايا الأخرى التي ذكرها الأستاذ صلاح، أن الفعل (ماشى) بصيغة (فاعل) استعمال جديد لم يُسبق إليه أبو تمام ، في قوله:
جارى إليه البيــــــنُ وصلَ خريــدةٍ
ماشت إليه المطلَ مشيَ الأكـــــــبدِ
وإنْ كانت له في العربية مادة لغوية ، بيد أنه جديد بهذا الاستعمال.
والحقّ أن (ماشى) بهذه الصيغة مستعملٌ غير جديد، قال مالك بن الريب:
فليتَ الغضا لم يقطعِ الركبُ عَرضَهُ
وليتَ الغضا ماشىَ الركابَ ليالــــيا
وقال جرير أيضًا:
يُماشي عَدِيّاً لؤمُها مــــــا تُجِــــــنُّهُ
من الناسِ ما ماشتْ عَـــدِيًّا ظِلالُها
وأقول: إن جديد أبي تمّام أكثر ما كان بمعانيه الجديدة، واستعاراته المبتكرة، وأخيلته المستحدثة، ونحو ذلك، أو لنقل: بخروجه عن ( عمود الشعر)، وهذا ما نصّ عليه النقاد المتقدِّمون، لا بهذا النحو من الاستعمال، وإنْ كان أن أبا تمام ندّ عن قواعد التركيب، في بعض الأحايين، فإنّ لذلك نكتة أو سبيلًا غير منقطعين عن العربية التي تنشبت في عروقه، وجرت في أسلَة لسانه، وكلُّ ذلك يُدرك بحسن الملاطفة وجميل الملاينة.