علي لفتة سعيد
مرّت هذه الأيام ذكرى رحيل أحد أهم رواد الرواية العراقية التي نقلتها من مرحلة الواقعية إلى المرحلة التجريبية مثلما عدّ واحدًا من أكبر الأدباء الذين تعرّضوا إلى القمع السياسي في حياته ومماته إذ تمّ تجريده من جنسيته مرتين. كما عدّ واحدًا من أفضل المترجمين الذين نقلوا الآداب العالمية إلى العربية.. إنه المترجم والروائي غائب طعمة فرمان الذي قيل عنه الكثير من قبل أدباء ونقاد عرب مثلما عدّوا روايته (النخلة والجيران) واحدة من أفضل الروايات العربية كونها رواية فنية ناضجة تتوفر فيها مقومات الرواية الحديثة وقد تحوّلت إلى فيلم سينمائي ومسرحية ومسلسل تلفزيوني.
ولد فرمان عام 1927 في محلة المربعة في بغداد لأسرة فقيرة حيث كان يعمل والده سائقًا وقد أصيب بمرض التدرّن بعد أن أكمل الثانوية، لكن أباه بعث به إلى مصر للعلاج وأكمل هناك دراسته في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو ما سهّل عليه اللقاء بعمالقة الأدب المصري في تلك الحقبة الزمنية، واختلاطه بالوسط الثقافي الفعال.. وهو الأمر الذي انعكس على وعيه السياسي وانتمائه إلى الفكر اليساري الاشتراكي وقد سبّب له متاعب كثيرة مع السلطة في بلاده وقد عاقبته الحكومات العراقية بإسقاط الجنسية العراقية عنه مرتين.
مراحل حياته
لفرمان مراحل حياتية كثيرة مرّت بتعاقب ومأساة وغربة.. يقول الناقد الدكتور عمار الياسري إن ما هو مثبّت أنه مرّ بخمس مراحل مهمّة، الأولى أطلق عليها المرحلة العراقية الأولى بين أعوام (1927- 1947) وهي من ولادته حتى مغادرته العراق إلى مصر.. والثانية سميت المرحلة المصرية (1947–1951) وهي تشمل سنوات الدراسة التي أمضاها في القاهرة. اما المرحلة الثالثة فقط أطلق عليها المرحلة العراقية الثانية (1951–1954) وهي تشمل عودته من القاهرة ثم اضطراره لمغادرة العراق، بحثًا عن عمل في سورية ثم لبنان، ليطلق على المرحلة الرابعة مرحلة التشرّد (1954–1960) تشمل مغادرته إلى لبنان وتنقله من دولة إلى أخرى حتى استقر به المقام في الصين التي عاد منها إلى بغداد بعد قيام ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 وهي فترة اتصفت بعدم الاستقرار، مما اضطره إلى معاودة السفر إلى موسكو عام 1960 والتي أطلق على المرحلة الخامسة الروسية (1960– 1990) وهي المرحلة الأكثر إبداعًا وأهميةً حتى وفاته في عام 1990.
روائي يرثي روائيًا
بمرور هذه الذكرى لم يجد الأدباء سوى صمت عن ذكره من قبل المؤسّسات والدولة.. وهو الأمر الذي انعكس سلبًا على موقف الأدباء الذين تذكّروا أن بيته في بغداد في أحد الأزقة البغدادية القديمة.. وقد كتب الروائي خضر فليح الزيدي على صفحته في «فيسبوك»: «إن بيت فرمان.. لا نخلة ولا جيران.. ولد وعاش في هذا البيت المهمل وكتب أجمل رواياته.. ومات في موسكو في شقة باردة بداء التدرن. إنه الروائي العراقي المنفي والذي أسقطت عنه الجنسية العراقية.. غائب طعمة فرمان… في عمق بغداد وفي منطقة المربعة البغدادية حيث ابتدع شخصياته هنا.. سليمة الخبازة وصاحب البايسكلجي (مصلّح الدرّاجات الهوائية)، ومصطفى الدلال وتماضر وابن الحولة و. و. و. أيعقل أن أزور هذا البيت / المتحف؟ هل تستطيع أمانة بغداد أو وزارة الثقافة أن تتبنى مشروع إحياء تراثنا الثقافي لرجل أحدث نهضة حقيقية في الرواية العراقية؟».
هذا الأمر يذكره أمين الشؤون الثقافية والناطق الإعلامي باسم اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، الشاعر عمر السراي، حيث يقول إن الروائي يمثل رمزًا أدبيًا مهمًّا من الرموز التي أثرت الثقافة العراقية، ممثلة بالجانب الأدبي، فضلًا عن تأثيرات كتاباته في الأجناس الفنية المجاورة كالدراما والمسرح إلى غير ذلك. ويضيف: إنه من الكتّاب الذين استلهموا الحداثة مبكّرًا في رواياته، إذ قدّم نتاجًا يشار إليه بالتفوّق والتمايز عمّا قُدم وقته. وما زالت أعماله شاخصة في ضمير القرّاء والحركة الأدبية. ويتابع: إن رواياته ومنها «خمسة أصوات» و»النخلة» و»الجيران» وغيرهما من المؤلفات المبدعة لفرمان، دروس في البوليفونية وتعدّد وجهات النظر عبر تبئير الشخصيات المختلفة وإعطاء وجهات نظر تنقل الموقف في حبكة محكمة. ويشير إلى أن فرمان الذي توفي في غربته «لاقى من العذاب حيًا ما يلاقيه من العذاب راحلًا، فعلى الرغم من خلوده الإبداعي، إلّا أن الإهمال الحكومي ديدن للتعامل مع قامات أصيلة ينبغي التعامل مع تراثها الفكري تعاملًا أصيلًا يوازي مستواها الأعلى». ويذكر أن الاتحاد قد نظّم ملتقى السرد في دورته الثانية عام 2015 وحملت الدورة اسم الروائي غائب طعمة فرمان، وكان البيان الختامي موجهًا إلى الجهات الثقافية الحكومية المسؤولة لتحمل مسؤوليتها في إعادة نشر وتوزيع نتاجات غائب فضلًا عن السعي لتأسيس متحف للرموز الثقافية انطلاقًا من جمع مقتنياتها وتحويل بيوتها إلى مزارات سياحية أدبية. ويستدرك السراي: «تجري السنوات من دون تحريك ساكن، وعملية التصدي لمشروعات كبيرة مثل هذا المشروع، تقتضي تضافر جهود عدة، لإتمام هذه الملفات الضرورية بصورة مقبولة». ويمضي بقوله «غائب فرمان لن يكون غائبًا عن الأوساط الثقافية رغم محاولات التغييب القسري المشوبة بالإهمال من قبل المتصدّين للشأن الثقافي، لذلك ستظل الرسالة مفتوحة ومستمرة لإحاطة سمعة البلاد الأدبية بالاهتمام والعناية وصولًا إلى ما يستحقه العراق من مكانة أدبية بين الأمم».
الحداثة والترجمة
الروائي حميد المختار الذي وضع باقة ورد على ضريح فرمان في موسكو يقول إن فرمان «عاش حياةً منسية طيلة ما بقي من سنواته في بغداد بسبب الإهمال الحكومي له وللكثير من أدباء العراق الذين ودعوا الحياة خلسةً وبسريةٍ تامة وهدوء». وأضاف: أستطيع القول إن فرمان هو الروائي العراقي الذي أحدث نقلةً فنيةً في الرواية العراقية حيث نقلها من المرحلة الواقعية الانطباعية إبان مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم وحولها إلى واقعيةٍ رصينةٍ في فنّها وتراكيبها وبناها فأنتج روايات حديثة. وخلال إقامته في موسكو لم ينقطع عن الأدب فكان أيضا مترجمًا كبيرًا ونشيطًا حيث قام بترجمة الكثير من الروايات السوفييتية هو والبعض من زملائه من المترجمين الذين أغنوا المكتبة العربية والعراقية بهذه الروايات التي توثق مرحلة مهمة من مراحل الإنسانية في روسيا.
ربما يكون فرمان واحدًا من أكثر الأدباء العراقيين الذين تحدّث النقاد والكتاب عن إبداعه.
فقد قال عنه غسان كنفاني إنه من أحسن الذين يمسكون القلم في هذه القارة. أما عبد الرحمن منيف فقال «لا أعتقد أن كاتبًا عراقيًا كتب عن العراق كما كتب غائب، كتب عنها من الداخل في جميع الفصول وفي كل الأوقات، وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف على أواخر الأربعينيات والخمسينيات لابد أن نعود إلى ما كتبه غائب». فيما قالت الدكتورة يمنى العيد عن رواية «المركب» إنها «وسيلة عبور وعنوان مرحلة للمدينة التي غادرها غائب ولم يعد إليها، المركب لا تحكي الماضي بل الحاضر المكتظ بالمعاناة التي تدفع راكبيه إلى الالتفات إلى ماضيهم بحسرة».
مؤلفاته:
الأعمال الروائية والقصصية- حصاد الرحى (مجموعة قصص) 1954؛ مولود آخر (مجموعة قصص) 1959؛ النخلة والجيران (رواية) 1966؛ خمسة أصوات (رواية) 1967؛ المخاض (رواية) 1973؛ القربان (رواية) 1975؛ ظلال على النافذة (رواية) 1979؛ آلام السيد معروف (رواية) 1980؛ المرتجى والمؤجل (رواية) 1986؛ المركب (رواية) 1989.
ترجم نحو ثلاثين كتابًا، ونال جائزة رفيعة على جهده في هذا الجانب.