«شعرية الفكرة» في نصوص الشاعر كاظم الحجاج

عبد علي حسن

ينتمي الشاعر العراقي كاظم الحجاج الى جيلٍ عُدَّ علامةً فارقةً في حركة التحديث الشعري في العراق ، ولعل وراء هذه الأهمية التي حظيَ فيها الجيل الستيني هو مجمل الظروف الموضوعية على المستوى المحلي والعربي والعالمي ، فمن ضرب اليسار العراقي عام 1963 إلى هزيمة العرب في حزيران 1967 إلى إضرابات الطلبة في امريكا وفرنسا ، كلُّ تلك الأحداث قد وضعت الشاعر العراقي في مستوى المسؤولية ليغتني خطابه الشعري بمواقف إنسانية ووطنية وجدت لها جذوراً في عقود سابقة حيث تصاعد منسوب الخطاب الوطني والطبقي اليساري تحديدا الذي وجد فيه المثقفون والمبدعين العراقيون ضالتهم في الانتماء إليه وتبني خطابه الإنساني الشامل ، وفي هكذا ظروف تشّكلت تجربة الشاعر كاظم الحجاج ليكون قريباً من المتلقي الشعبي البسيط ليصل إليه خطابه الشعري الذي لم يستجب الىٰ تيار العبث والوجودية واللامعقول الذي ساد في العقد الستيني كردّ فعل لعوامل الإحباط التي ابتليت بها الشخصية العراقية آنذاك ، ولتكريس فواعل تجربته الشعرية ذات المنحى الوطني والإنساني ، فقد أدرك كاظم الحجاج وبوقت مبكر أن في اللغة البسيطة غير المركّبة غموضاً أو ابهاماً تكمن قوّة النص الذي سيهتمُّ بالفكرةِ دون اللعب اللغوي غير المجدي والعجز عن توصيل رسالته ، ومنذ ديوانه الشعري الأول (أخيراً تحدّث شهريار) بغداد/1973 ودواوينه الأربعة اللاحقة التي تضمنتها ( الأعمال الشعرية الكاملة) الصادرة عن دار سطور / بغداد 2017، اجتهد كاظم الحجاج ليتحوّل نصّه هومن شعرية الوجدان إلى شعرية الفكرة ، ووجد في المجاز البنائي دون البلاغي مايحقق تلك الشعرية التي سينفرد بها نصّهُ الشعري ليكوّن له بصمتهُ الخاصّة بين الشعراء العراقيين على مختلف أجيالهم التي ينتمون إليها ، وأعني بالمجازر البنائي هو تحويل الاهتمام من صياغة الصورة الشعرية باستخدام فنون القول البلاغية من مجاز واستعارة و تشبيه ، التي تنفرد بها الجملة الشعرية إلى الاهتمام بالمجاز الكلي للنص الذي تسهم فيه اللغة كوسيط لنقل وجهة النظر أو الفكرة ، وإذا ما عرفنا المجاز في اللغة هو التجاوز والتعدي ، وفي الاصطلاح اللغوي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة ، أي أن اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفي بل معنى له. علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي ، فإن نصوص كاظم الحجاج تجنح إلى تجاوز المجاز اللفظي الذي يخلق الصورة الشعرية إلى المجاز البنائي الذي يتعدى الجملة / الصورة إلى النص كوحدة عضوية لتخليق فكرة ما ، وبمعنى آخر فإن هنالك علاقة مشابهة سريّة بين الفكرة المصاغة شعرياً وما تستبطنه من إحالات مؤجلةٍ ، ثاويةً في اللغة ، وهنا يكمن جهد الشاعر الحجاج في صياغة المجاز البنائي الكلي للنص ، دون استقلالية الصورة الشعرية المعتمدة على المجاز البلاغي ، وسيتبدى ذلك عند تحليلنا لعدد من نصوص الشاعر وفق هذا الاتجاه ، وخاصة في النصوص القصيرة التي امتلكت كفاءتها الدلالية في طرح الفكرة كأشكال وجيزة ، وهذا لا يعني أن نصوصه الطويلة لا تنحو هذا النحو الذي أشرت إليه آنفا ، إذ أن هذه النصوص الطويلة قد امتدّت الى مناطق قصيّةٍ في مخيال المتلقي ليستجمع رؤاه صوب الفكرة التي حرصت تلك النصوص على تخليقها عبر اللغة البسيطة والموحية.
توحيد 1.

      ياقريتنا..
       لُمّي أبنائكِ..
      أيّاً ما كانوا ، 
       أو في أيّ مكان
     ياقريتنا..
      مجدُ الرمّانة ، حبُّ الرمّان !... ص 9 )

في النص السالف اسهم العنوان في توكيد فكرته بدءاً ، إذ تهيأت مرجعية المتلقي لمتابعة مجريات النص للبحث عن توافق أفقه مع ماسيثبته النص ليس بعيداً عن العنوان الإشهاري (توحيد) ، فالمنادى (ياقريتنا) صار إزاء مهمةٍ وهي (لمّ) الأبناء أياً كانوا على اختلاف مكوناتهم والوانهم وفي أي مكان كانوا جنوبا أو شمالا لتجمعهم (تلمّهم) القرية لأنهم أبناءها ، والنص بهذه اللغة البسيطة التي تمكنت من بنائية المجاز البعيد عن المحسنات والاستعارات البلاغية ، إنما ليتمكن من تقريب أو مشابهة توحيد الأبناء بما هو قريب من مرجعية المتلقي ، وممتنع في الوقت ذاته ليكون في منطقة جاهزية القرين المعنوي ، وباختيار النص للرمانة هو تخليق لفكرة توحيد أبناء القرية كما تتراصّ حبات الرمّانة بالشكل المعروف لدى المتلقي ، إذ تتبدى وعلى نحو شعري كيفية بناء شعرية فكرة التوحيد التي وجدها المتلقي في النص مغايرة ومختلفة عن أي تشبيهات لتقريب فكرة التوحيد ، ومثلما هو مجد الرمانة وتفرّدها في التراصّ المحكم لحباتها ، فإن مجد القرية / وهنا الوطن ، في وحدة الأبناء على اختلاف مشاربهم وامكنتهم.

2.أمجاد
حتى بين رصاصات الجنود
رصاصاتٌ محظوظةٌ
تلك التي تُخطيءُ أهدافَها
ورصاصاتٌ تعيسةٌ
تلك التي ترتكبُ
أمجادَ الحروب ! النص ص18)
في هذا النص يذهب البناء اللغوي إلى تأثيث فكرة تنهض على اللازمنية ، فهو يوزع الرصاصات إلى داخل/خارج فعلها الذي قامت لأجله وهو القتل ، فالفعل الخارج عن مهمتها كما في النص هو خطؤها في إصابة هدفها ، ومن وجهة نظر النص فإنها محظوظة ، أما الأخرى — الفعل الداخلي — فهي تعيسة أسهمت في كتابة (مجد الحروب) الذي يرفضه النص بدلالة تعاسة الرصاصة التي تصيب هدفها وهو القتل ، إذ أن مجد الحروب كما يراها النص هو المزيد من القتل ، وتبدو الدلالة البعيدة لمفردة المجد على أنها سخرية من المجد الذي أنشده الحروب ، لتكون فكرة النص قد بنيت على المجاز البنائية الذي ذهب إلى أنسنة الرصاصات لإضفاء صفة ( المحظوظ) و (التعيس) وهما صفتان إنسانيتان ، لتقريب فكرة النص وهي تحصيل للبناء اللغوي المتوالي وصولاً إلى المفارقة التي تتفق وافق توقع المتلقي.
( شفافية 3.
النهرُ الصافي جداً
اسماكهُ مُهدّدةٌ ! النص ص 53،
يستبطن هذا النص الوامض دلالة إحاليّة لفكرة رائعة وعميقة ، والمجاز الذي قام عليه النص هو مجاز تشكّل بفعل بنائية اللغة التي تمكنت من ترحيل المشهد المرسوم بعناية فائقة من المرئي / الواقعي /المرجعي إلى فكرة استدلالية تبتعد عن المعنى الصريح الذي ثبَّتهُ النص والقريب من ذهن المتلقي إلى مغزى مؤوَل ، وهو أن شفافية الإنسان ووضوحه إلى درجة النقاء غالباً ما يكون استهدافه متيسرٌ ،
4.مثل خبز الأرياف
خرجنا من تنانير امّهاتنا
ساخنين…
لأجل أن نليق بفم الحياة …النص ص 19)
ينبني النص السالف على مجاز لغوي ليخلق إحالة دلالية ليستجلب ما يعرف في مخيال المتلقي ، فالعلاقة بين خبز التنور الذي تعدّهُ الأمّهات في الأرياف وحتى في المدن وبين خروج ال (نحن) الجمعية إلى الحياة قائمة على فكرة الاستهلاك بشهية ، فمثلما يؤكل الخبز اللذيذ الخارج ساخناّ من التنور ، كذلك يخرجُ الناس ليتلقفهم فم الحياة الفاغر لالتهام الناس بكل ضراوة وشراهة وشهية ، فكلُّ ما قامت به اللغةُ هو بناء مجازي بين قطبين جرت المشابهة بينهما لتوصيل فكرة دور الحياة بكل مساوئها وشراستها لسحق والتهام المحرومين بأنيابها التي لا ترحم.
اخلصُ من كلِّ ذلك الى أن نصوص الشاعر كاظم الحجاج في جميع دواوينه الخمسة التي ضمّتها الأعمال الكاملة قد تميّزت بتأكيدها على طرح الفكرة التي تعتمد البناء اللغوي الذي يخلق المجاز البنائية دون البلاغي و الذي يصل في بعض الأحيان إلى التقريرية والوضوح المقصود لتنساب الفكرة هادئة احيانا ومدويّةً أحياناً أخرى للمتلقي بعدّهِ هدفا مركزياً رسالة النص لدى الحجاج ، ليكون أسلوباً متفرداً لتجربته الشعرية منذ العقد السادس من القرن الماضي ولحد الآن ، وهذا الأسلوب اسهمَ في بناءه جملةً من الظروف الموضوعية والذاتية المشكّلة لتجربته الحياتية ثم الشعرية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة