حسين الصدر
-1-
يحلو لبعض الحداثيوين أنْ يَجْهَروا بالدعوة الى طيِّ صفحةِ الماضي بكل ما فيه والانطلاق من روح العصر وحضارته وما أفرَزَتْهُ من قيم وَمُتَبَنيات ومواضعات …
ويبدو الأمر للوهلة الاولى وكأنّه تَنَهدٌ لإحراز التقدم والتحليق في فضاء التجديد والابداع … ،
ولكنَّ البُعْدَ الأعمق لهذه الدعوة البائسة هو التزهيد بما حمله تاريخنا من ومضات مشرقة، امتدت لتشمل كل النواحي في الحياة روحيّاً وعلمياً واجتماعيا واخلاقيا، وبالتالي فهو تزهيد في القيم الاصيلة التي لابُدَّ أنْ تُستَلْهمَ في مسيرتنا الحياتية .
انها دعوة خطيرة لفصل المسلم المعاصر عن تاريخه الرساليّ الحافل بكل معاني السمو والتألق في مناحي الحياة كلها .
-2-
ونحن ندعو أبناء الجيل المعاصر للافادة مما حمله التاريخ مِنْ عَبرٍ تجارب ودروس، بعيداً عن الجمود والتكلس، وتوظيف هذا الخزين لصالح التقدم والتطوير المطلوبَيْن في الوضع الراهن .
-3 –
لا يزدهر الحاضر إنْ لم نستفد من الماضي، ولا يشرق المستقبل الاّ باضاءات الحاضر .
-4-
والآن :
اسمحوا لنا ان ننقل لكم ما ذكره الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) ج3 ص 446 :
حيث ورد فيه :
” جاء فتحُ الموصلي الى منزل صديقٍ له يقال له عيسى التَمّار فلم يَجِدْهُ في المنزل فقال للخادم :
أَخْرِجِي اليَّ كيسَ أخي ،
فأخرجته ، ففتحه فأخذ درهميْن ،
وجاء عيسى الى منزله فَأَخْبَرَتْهُ الخادم بمجيء فتح وأَخْذ الدرهمين فقال:
إنْ كنتِ صادقةً فأنتِ حُرّةٌ لوجه الله ،
فنظر فاذا هي صادقة ، فعتِقَت “
أرأيتَ كيف تكون الصداقة ؟
انها تُخّوِّلُ الصديق أنْ يمدَ يَدهُ الى كيس صديقه ويأخذ ما يحتاج دون استئذان ، وهذه هي أعلى الصيغ الاجتماعية قوّةً وقدرةً على اشباع الحاجات الآنية ، مضافا الى ما تنطوي عليه من معانٍ سامية تجعل الصديق نسخةً ثانية من النفس، تبيح لها التصرف بكل ما تملك .
وهذا مالم تصل اليه الحضارة المادية المعاصرة يقيناً .
ولو أقدمت ” الخادم ” اليوم على التصرف بشيء من أموال ” المخدوم” دون اذنه ، لعاقبها وطردها ، ولكنّ التمّار كافأَ جَارِيَتَهُ وأكرمها وأعتقها فأصبحت حرّةً لوجه الله ، تقديراً لما قامت به من عمل انساني نبيل .
-5-
ويؤسفنا أن نقول :
انّ الكثير من الصداقات المدّعاة اليوم ليست الاّ محاولات لاستثمار ما يمكن استثماره من الآخر تحت عباءة الصداقة وبريقها الأخّاذ ..!!
-6-
ومن الصعب أنْ تجد مَنْ يجود بماله او جاهه او جهده لصالح الصديق ..
-7-
انَّ المعركة بين (المبادئ) و(المصالح) حاميةُ الوطيس ، وقد حسمت للاسف الشديد بانتصار الثانية على الاولى .
وهنا تكمن المصيبة