لا أظن أن عدد أفراد النخبة في البلاد العربية قل، أو أن تحصيلهم العلمي انكفأ، أو أن قدراتهم العقلية تراجعت، حينما أطل القرن الواحد والعشرون. بل إنني أؤمن أن هناك طفرة في المجموع، والتحصيل، وظروف المعيشة، وأمور كثيرة أخرى. لكن المفارقة أن القرن الذي سبقه كان يضج بالأسماء اللامعة، والشخصيات المؤثرة، والإنجازات الكبيرة. ومازال حتى هذه اللحظة فاعلاً ومتجدداً. ومازال لذلك الجيل، الذي انسحب من حياتنا بعد أن أدى دوره كاملاً، الكثير من الفضل، والريادة، والدين.
ولم يكن ذلك لأن النخبة امتلكت حينئذ ناصية اللغة، وألمت بأنواع المعارف، ودرست في أفضل الجامعات. فلدينا في هذه الأيام من لا يقل عنها تحصيلاً وجدارة. بل لأن مفهوم الثقافة آنذاك كان يعني بالدرجة الأولى تطوير الأداء المجتمعي، وتحسين ظروف المعيشة .
لقد شهد القرن الماضي تغييراً هائلاً في أحوال العرب بعد انفصالهم عن الأمة التركية. فظهرت لأول مرة الدولة القومية التي نقلتهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم. وحققت لهم ما يتمنونه من الاستقلال والحرية. وكان مفكرو تلك الأيام يعتقدون أن عليهم واجباً مقدساً هو تطوير الوعي، ونقد القديم، والدعوة إلى التجديد، والنضال من أجل التحرر والعقلانية.
كانت النخبة في ذلك الحين تضطلع بدور نهضوي، وتسعى لتبديد الظلام الذي خلفته القرون. ولم يوقفها عن ذلك المثول أمام المحاكم، أو الإبعاد عن الوظيفة، أو النفي، أو التجويع. وكان أن آمنت بها الجماهير في الوطن العربي، وأحبتها، وجعلت منها مثلاً أعلى. فحازت أسماء مثل طه حسين وزكي مبارك وسلامة موسى والعقاد والشابي والرصافي وجبران وكثيرين غيرهم، شهرة تتجاوز المألوف.
في حين حرص الجيل الذي أعقبهم على الرفاهية ورغد العيش، وأخذ يمني النفس بالمنصب والثروة والجاه العريض. وحينما سيطرت بعض الأحزاب على السلطة هرع جمع غفير منه ليقدم خدماته إليها، ويتزلف لرموزها، ويكثر من المديح لقادتها. لأن ذلك بنظره – وربما كان محقاً إلى حد ما – هو السبيل الوحيد للحصول على لقمة سائغة، ومركز اجتماعي مرموق، ووظيفة مجزية.
وفي الوقت الذي شرعت فيه المدارس الأدبية والفنية بالظهور، فإن تصوير هموم الناس، وإدانة الظواهر السيئة، والتبشير بحياة أفضل، بدأت تختفي وراء هالة من الإشارات والرموز الغامضة. وحدث انفصال بين النخبة والجماهير. وأخذت نظرية الفن للفن تحتل الأولوية في نظر رجال الثقافة. حتى أدرك الناس أن النخبة لم تعد قادرة على قيادتهم في معاركهم الجديدة، ضد التسلط والهيمنة والفقر والتخلف. وأخذت تتطلع إلى قوى جديدة لم تكن حتى وقت قريب، معنية بمثل تلك الأمور.
لقد كانت الثقافة تعني الالتزام نحو المجتمع والناس، والله والوطن. وهذا ما افتقده الجمهور بشكل مفجع في العقود الأخيرة، حتى بات يؤمن بزمن جميل ولى، وحاضر مزيف أقبل. وكان لذلك ما له في تشويه العلاقة بينه وبين النخبة بشكل مؤلم.
محمد زكي ابراهيم