بانتظار ما هو آت

  محمد زكي ابراهيم

لم يفرز المسلمون طبقة تشتغل بالفلسفة والمنطق، والبحث والتفكير، والكلام والعقل، في سني بعثتهم الأولى. كانوا مشغولين بالفتوحات وإرساء أسس الدولة وإقامة قواعد الحكم عن أي شيء آخر. وكانت التهديدات التي حاولوا دفعها، والخلاص منها، تشكل لهم هاجساً وجودياً. حتى إذا ما انتهوا منها في القرنين الأول والثاني، بدأت مهمة الانفتاح على العالم، والاطلاع على تراث الأمم الأخرى، التي سبقتهم في الحضارة.

وليس غريباً أن يكون للاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي الأولوية على ماعداه من الأنشطة الإنسانية. فلم يكن من المعقول أن ينشغل المقاتلون بعلوم اللغة مثلاً، وهم يواجهون الحملات العسكرية. أو أن ينصرفوا إلى تدوين الحوادث التاريخية وهم يفتقرون إلى الأمن. في ما بعد هرع المسلمون العرب والمستعربون الجدد نحو طلب العلم. كانت وجهتهم المساجد التي تحولت إلى مدارس وجامعات، وباتت أروقتها ميداناً للعلوم الدينية والدنيوية، ومقصداً لهواة المعرفة. فكان أن أخرجت النحو والعروض والكلام. وأنبتت أولى محاولات الولوج إلى أسرار  الكيمياء والطبيعة والهندسة والطب، قبل أن تتجه الدولة إلى بناء المدارس المتخصصة ذات النظام الداخلي.

لقد حدث الشيء ذاته في أوروبا بعد انتهاء الحملات الصليبية وتوقف المعارك مع المسلمين، وسقوط الأندلس وصقلية، والسيطرة على طريق التوابل والحرير. فالمفكرون الكبار مثل فرنسيس بيكون، ورينيه ديكارت، وتوماس هوبز، وجون لوك، وسواهم، ظهروا في عصر الاستقرار الذي أعقب مرحلة التشرذم والغزوات والحروب الداخلية في أوربا الجنوبية. أما ما قبل ذلك التاريخ فقد كان الفكر الكنسي يتحجج بالتهديدات الخارجية لإلزام معارضيه بالتعاليم الأرسطية الصارمة.

كل شيء يدل على أننا نمر الآن بذات الدورة الحضارية. فمازلنا نخوض المعارك السياسية والعسكرية منذ أكثر من قرن. ومازال اقتصادنا يترنح من الهزال والفوضى. ومابرحنا ننتقل من فكرة إلى فكرة، ومن نظام إلى نظام، ومن وجهة لوجهة. مع كل ما يقتضيه ذلك من إراقة دم، وهدم مؤسسات، وهدر طاقات، وتبديد أموال.  مثل هذه الأمور لا تسمح بنمو وازدهار الثقافة. ولا تتيح لها أداء دورها في بناء مجتمع متكافل رصين، بعيداً من التكوينات الفطرية التي خلقت التفكك وقلة الانسجام، مثل العشائرية والمناطقية والبداوة وغيرها.

والحقيقة أن ما يعانيه المشتغلون بالفكر في بلادنا من ضنك العيش وقلة المؤونة وندرة الاهتمام هي ظواهر تنخر في جسد الثقافة. وتمنعها من تقديم أي شيء ذي بال. وتدفع بها للانغماس في المشهد السياسي بكل ما فيه من لاعقلانية وتخبط. ولا شك أن الاستقرار الذي ينتظره الجميع، سيضع نهاية لكل تداعيات الفوضى هذه. ويبدأ في تكوين جيل جديد قادر على العطاء والإبداع.

علينا أن لا نتوقع ظهور أسماء كبيرة في هذه الحقبة، لأننا مازلنا في مرحلة التأسيس. وإذا ما استطعنا تجاوز هذه العقبة، فستبدأ المرحلة الأهم وهي عملية بناء تقاليد ثقافية متقدمة. وحينها فقط سنبدأ بتحسس مواضع أقدامنا في المجتمع العالمي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة