إحداثيات قصيدة النثر وحداثتها

كمال القاضي*

تذهب قصائده وأبياته إلى ابعد مما ينبئ به الحدس ، فهو يميل إلى تلك الصور الغامضة نسبياً، ذلك الغموض الموحي بالفكرة التي ينسج منها محتوى أشعاره .. انه الشاعر عمار عبد الخالق يقف دائما بين مفترق المعاني ليلتقط خيوط التعبير الحداثي ، ويضع في سلة التذوق ما يُثير الشهية للقراءة والتأمل والبحث في مضمون الكلمات والتفتيش عن مكامن الرؤية.
ثمة اشتباك مع الواقع الجديد وتأثيرات العالم التكنولوجي يتعمده الشاعر ليمزق غلالات التعتيم عما نجهله من شفرات التواصل المختصرة في حروف الكيبورد والرسائل النصية التي صارت لغة التخاطب الأساسية في منظومة الخطوط الساخنة بتيارات الأون لاين المتخمة بالرسوم المتحركة والموتيفات والجمل الحوارية القصيرة والطويلة ، فهو يعطف غالبا على التقنيات ، ليبلغنا بسر اللغة الجديدة ، إذ يرسم الشاعر في قصيدة أحواض نسائية من الزئبق ، صورة البليغة المقتضبة ليدلنا عن مكامن الثراء في التفاصيل الصغيرة ، حيث يقول الحياة مرض خطير ، علاجه أن تكون مجنونا .. مجنون يحرق الجملة المركبة .. كان وأخواتها …. ويمضي معرجا على اللغة والوصف كشاعر يمتلك ناصية البيان ويؤمن بالمزج بين الأدوات ، فالقصيدة لديه ليست موضوعا لسجال ممتد أو حوار للنقاش لكنها حالة شعورية تحتمل معانيها كل التضمينات.
ليس بإمكان المرء العائش في الكوكب الرومانسي أن يتخلى عن القصيدة فهي وسيلته للتواصل في عالم تهيمن علية المادة ويسجن داخل المعادلات الرقمية ، ذلك أن شاعر شخص مختلف في تكوينه وأفكاره لا يجيد الجمع والطرح والقسمة ولا للضرب محل في قاموسه الشعري ، هو بالكاد يعرف لغة التناقض ويمتلك موهبة التقاط المفارقات في الأشياء والأحداث والمراهنات ، فهكذا الشاعر الذي يمثله عمار عبد الخالق ، ذلك الموهوب الجانح إلى رفض المقدس والاعتيادي والمكرور ، كونه نازع دوما إلى المثير كتفسيره للجنون بوصفة فعلا إيجابيا لا مرضا عضالا يسلب الإنسان عقلة ورشدة كعهدنا بالتشخيص الدلالي لخالة المجنون وطبيعته.
ذلك هو ما يميز الشاعر الذي يقول في شطر آخر من القصيدة المذكور عنوانها سلفا. أحواض نسائية من الزئبق .. أضحك على خناجر أهازيج الكهنة ، أضحك من سطح بيت الصفيح ملامسا لصائغي سوق الفيروسات داخل فم الأخطبوط .. سنلحظ بالتدقيق في الجملة الشعرية تداخلا لا منطقيا من الوهلة الأولى ، لكن غاية الشعر والشاعر هو ذلك الخروج اللامنطقي بالعبارات إلى مدار المنطق الشعري الفلسفي الخاص ، وهو التصرف اللائق بالصور ة المختزلة داخل المضمون فهي لا تخضع إلا لإرادة كاتبها وما أوردة من سيقات تجدر بإبراز معناها فلا يجوز التعامل مع الجملة الشعرية بقانون النثر الخالص ، حيث لكل منهما خاصية.
يكتب عمار عبد الخالق أيضا ما يدل علية كونه يحمل وجهة نظر سياسية إلى حد بعيد ويفوض في هذا الخصوص قصائده لتقول ما يريد قولة بلا قيد أو شرط .. الجارية تبيع خصلات شعرها على أولاد آدم بكيس طحين ، الإشارة هنا جلية وواضحة فهو يعرض بالفقر الذي يؤدي إلى الجوع ومن ثم إلى المذلة ، فالمقايضة ليست عادلة بين بيع جزءا من أنوثة المرأة وجمالها مقابل القوت .. أو الحد الأدنى من القوت إن شئنا الدقة ، وهي قمة التراجيديا في الصورة الشعرية المستخلصة ، غير أن المقابلة في حد ذاتها جد قاسية وتستوجب التوقف طويلا أمام النص والفكرة الضمنية.
نعود إلى الجرس الموسيقي في الأبيات أو السطور الشعرية المتجاوزة لمفهوم الحداثة التقليدي ، فالإيقاع هنا منضبط بحسب المعنى ودلالته ، وبالقطع لا يجافي الجمال المفردات المختارة بعناية لتكون في موضعها البلاغي تماما ، فالإحساس هو مؤشر اللحظة وعنوانها الدقيق ، وهذا ما يجعل النص غنيا بذاته عن ارتباطه بالقافية ، لأنه مدرك بالقوة والفعل أي أن الصوت الموسيقي المطلوب للإطراب وإيقاظ الحس متوفر في المجاز والإيجاز وفلسفة المعنى وعمق الهدف .. تلك مزايا الشعر المتحرر من قبضة المباشرة وغلو المزايدة وهو الرهان الصعب في قصيدة النثر التي نجح الشاعر عمار عبد الخالق في تطويعها فصارت وافية بالغرض كافية للتعبير.

  • كاتب من مصر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة