أيوب بابو بارزاني 03.23. 2012
البيان المشترك الذي أصدره وزراء خارجية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا قبل أسبوعين بمناسبة الذكرى العاشرة للصراع السوري يبدأ بكذب صريح من خلال تحميل الرئيس بشار الأسد و”الداعمين له” مسؤولية الأحداث المروعة في سوريا. الواقع التاريخي هو أن هناك دماء سورية سالت على أيدي دول حلف شمال الأطلسي (بما في ذلك تركيا) وحلفاء الولايات المتحدة في الخليج. انظروا إلى الدمار الهائل الذي تسببت فيه الولايات المتحدة: ففي تقدير البنك الدولي، فقد إجمالي الناتج المحلي لسوريا 226 مليار دولار بسبب الحرب من عام 2011 إلى عام 2016 فقط.
بدأ الحضور العسكري لدول الناتو في العراق منذ عام 2003 وبعد سقوط ليبيا في عام 2011 جاء دور اسقاط النظام السوري، ورغم التحشدات الكبيرة والشرسة صمد النظام. لقد كان أوباما أول زعيم عالمي يدعو علناً إلى اسقاط الأسد. وكان ذلك في آب/أغسطس 2011. ثم قام رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ديفيد بترايوس بزيارتين غير معلنتين إلى تركيا (في مارس/آذار وسبتمبر/أيلول 2012) لإقناع أردوغان بالتدخل لانجاز المشروع الأمريكي في اسقاط نظام الاسد (تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”).
حلفاء أمريكا، المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة أخذوا على عاتقهم تخفيف الأعباء المالية لتجنيد وتمويل وتجهيز الآلاف من المقاتلين الجهاديين لنشرهم في سوريا. وبالمثل، منذ المراحل الأولى من النزاع، قدمت وكالات الاستخبارات الغربية الرئيسية الدعم السياسي والعسكري واللوجستي للمعارضة السورية والجماعات المتمردة المرتبطة بها، وبينما كان المشروع الأمريكي الغربي المدعوم من الإسلام السياسي التكفيري والرجعية العربية قيد التنفيذ، كانت الدولة الروسية تجدد شبابها وتنهض من الكبوة بديناميكية جديدة، والصين تتقدم بخطى ثابتة للقيام بدور رئيسي في الاقتصاد العالمي وفي المحافل الدولية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تستسلم للضغوط الغربية فطورت قدراتها العسكرية والصناعية والزراعية مما أهلها للعب دور هام في أزمات الشرق الأوسط، كل هذا كان مؤشرا على خروج البشرية من نموذج نظام القطب الواحد والمتمثل في هيمنة الدولة العميقة الأمريكية على مقدرات العالم بكل ما تمثله من توحش وجشع ودمار.
التدخل الروسي في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015 قلب المعادلة وأفسد خطط واشنطن وحلفائها من المقاتلين الجهاديين المدعومين من حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين.
كانت منطقة الشرق الأوسط بعد 2011 ملتهبة وتنتقل فيها نمط الحروب من الحروب العسكرية الخشنة الى الهجمات الإرهابية والى الحروب بالوكالة وفرض العقوبات القصوى وسياسة التجويع والتلاعب بمعدل صرف العملات المحلية لفرض مشروع الهيمنة الأمريكي.
وبالنسبة لأمريكا شكّلت القضية الكردية عامل ضغط على أربع حكومات شرق أوسطية هي تركيا، إيران، العراق وسوريا، فخلال قرن من الزمن بقيت دون حلّ، فالنزعة الديكتاتورية والاستعلاء القومي وتبني الحلول العسكرية لطمس معالم الهوية الكردية وكردستان كوطن – العراق يستثنى فالنظام فدرالي – استغلت الولايات المتحدة والغرب، العامل الكردي خدمة لمشاريعها في مناسبات عديدة ثم تخلوا عنهم. على سبيل المثال: في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما كانت الولايات المتحدة تعتبر نظام البعث موال للسوفيات وبالتشجيع من شاه إيران، الذي كان لديه نزاعات حدودية مع العراق، أرسلت الولايات المتحدة وإسرائيل، فرقاً استخباراتية وأسلحة إلى أكراد العراق لمساعدتهم ضد بغداد. ومع ذلك، عندما قرر الشاه إبرام اتفاق مع صدام حسين عام 1975، وتخلى عن الاكراد. حذت الولايات المتحدة واسرائيل حذوه.
وفي أعقاب حرب الخليج 1990-1991 مباشرة، شجع الرئيس جورج بوش الأب كلاً من الشيعة والاكراد على التمرد على نظام صدام حسين. والمجموعتان أخذتا خطابه على محمل الجد. لكن قوات صدام حسين سحقت الانتفاضة بطريقة وحشية. واضطر أكثر من مليون مواطن إلى الفرار من ديارهم، وعبر الجبال الوعرة واللجوء إلى تركيا وإيران. وأدى هذا الى انشاء “منطقة حظر جوي” لتمكين الأكراد من العودة إلى ديارهم، وسرعان ما أسسوا، حكومة إقليم كردستان خارج سيطرة الحكومة المركزية العراقية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت واشنطن الحامي الرئيسي لـ «حكومة إقليم كردستان»، وساعد الجيش الأمريكي القوة العسكرية التابعة للحزبين الحاكمين الكرديين «البيشمركة»، بالأسلحة والتدريب والتمويل.
وحتى اليوم ليس لأمريكا سياسة خارجية واضحة المعالم تجاه الأكراد غير حماية محددة مقابل الاصطفاف الكلي مع الخيارات الامريكية، فهي تعطي أهمية أكبر للحكومات، لكن عندما تعارض حكومة معينة المشروع الأمريكي تلجأ واشنطن الى الورقة الكردية لممارسة الضغط على أطراف مختلفة وهذا ما حصل مرارا في العراق وسوريا، وحتى فرنسا أخذت في الآونة الأخيرة تلوح بالورقة الكردية في وجه أنقره أثناء توتر العلاقة بين ماكرون وأردوغان. كما ان حكومة أنقرة تستخدم قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني كورقة ضغط على بغداد وعلى PKK و PYD و YPG السوري وجناحه العسكري SDF وتستخدمه بعض الأحيان ضد الاتحاد الوطني الكردستاني.
وجود القوات الامريكية في مناطق كردية في العراق وسوريا يحتم نوعا من التنسيق مع القوات والإدارة الكردية، ففي حين انصاعت قيادة إقليم كردستان (أربيل) منذ البداية الى العمل تحت المظلة التركية، تعتبر أنقرة وحدات حماية الشعب الكردي السوري، التي تعول على الدعم الأمريكي العدو الأول لها. وهنا دخلت في خلاف معلن مع واشنطن. فوجود إدارة ذاتية كردية خارج سيطرتها يثير شحنات قوية من مشاعر العنصرية التركية ويفسر هذا تواجد قوات عسكرية ضخمة على امتداد الشريط الحدودي مع سوريا لمنع رسوخ الكيان الكردي.
كما تسعى واشنطن والحلف الغربي منع التقارب الكردي مع دمشق، طالما لم تتحقق بَعد أهدافهم الجيوسياسية في سوريا، وهو مسعى لافشال السياسة الروسية في تحقيق تفاهم بين الكرد ودمشق. وليس من شك ان دوائر صنع القرارات الاستراتيجية الامريكية ترى أهمية امتلاك أدوات الضغط المحلية لفرض المشروع الامريكي وافشال خطط محور المقاومة: روسي إيراني، يمني، سوري وحزب الله اللبناني.
في خضم الصراع الاقليمي والدولي حول سوريا ومنطقة الشرق الاوسط، يكتسب الطرف الكردي مساحة معينة في ترجيح الحلول أو تعميق الأزمات. فالقضية الكردية يجب ان تبقى قضية شعب مسلوب الحقوق، يناضل من أجل نيل حقوقه المشروعة وليس أداة بيد قوى خارجية تستخدمهم كمرتزقة لتحقيق المشروع الامبريالي في الشرق الأوسط. ثم من الأهمية بمكان انتشال (قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني) بتوجهاته العائلية والعشائرية، من المستنقع التركي المُذِل، ولن يحصل هذا الا بتنسيق نزيه وكامل مع (حكومة وطنية مخلصة ناضجة) في بغداد.
القوى الكردية الفاعلة على المسرح السوري احتفظت باستقلاليتها، اذ ليس من مصلحة الشعب الكردي الانخراط في صراعات القوى الدولية والإقليمية، فمن المستبعد أن تختار واشنطن خسارة تركيا من أجل الإدارة الذاتية الكردية، ولا أعتقد ان واشنطن ستنجح في اقناع تركيا بالاعتراف بوجود الشعب الكردي في أي جزء من أجزاء كردستان. ان أفضل الحلول هو التوصل لحل مرض بين الطرفين، الحكومة السورية والإدارة الكردية التي ساهمت في دحر (داعش) بشهادة الاعلام العالمي، ان هذا ممكن في حال تحلي حكومة دمشق بعقل منفتح وتقول للكرد: “أنتم لا تحتاجون الى الأمريكيين والغربيين لنيل حقوقكم، تعالوا لنتفاهم على كل شيء ونبني وطنا ينعم فيه الجميع بالحقوق والكرامة، ونضع حدا للتدخلات الخارجية المغرضة في شؤوننا”.
وبعد كل هذه المآسي والدمار والويلات وضياع البوصلة على مدى قرن من الزمن هل تطور العقل السياسي الشرقي واستخلص التجربة من دروس التاريخ وبلغ مستوى النضج للبدء بمشروع كان يبشر به الأستاذ (أنيس النقاش) رحمه الله في كتابه المعنون “الكونفدرالية المشرقية” وهل ستكون البداية من دمشق أو من عاصمة أخرى؟