شهدت العاصمة بغداد وعدد من المحافظات العراقية نشاط واسع وممنهج، لاجبار سكانها بكل طريقة ممكنة بما فيها قطع الطرق واحراق الاطارات وغير ذلك من الاساليب والممارسات التي لا تمت بالحقوق والحريات بصلة؛ كي ينخرط الجميع في آخر ما اجترحته الموروثات العراقية من مآثر (الاعتصام الاجباري). لا احد ينكر حقيقة ان التظاهرات والاحتجاجات بما فيها الاعتصامات هي حقوق مشروعة نص عليها الدستور العراقي وشرعة حقوق الانسان العالمية وباقي المدونات الاممية المتعلقة بهذا الميدان الحيوي في حياة المجتمعات والدول. لكن أن تتخصب هذه المفردة الحضارية الراقية والمجربة في انتصارها لعيال الله (الاعتصام) مع ضدها النوعي الاجبار والاكراه؛ فان ذلك يشير الى عطب هائل لا يلتفت اليه الا من في حواسه خلل. ان من يحاول جر الاحتجاجات بعيداً عن سبيلها ومصدر قوتها وديمومتها (السلمية والوضوح) لغايات فئوية ضيقة أو دوافع اخرى، متنافرة مع التطلعات المشروعة للمحتجين، لا يحكم عليها بالفشل وحسب بل يحولها الى ذريعة تتيح لقوى التشرذم والفساد من شتى العناوين، كي تلتف عليها وعلى مطالبها العادلة والمشروعة.
ان وضع لافتة تتضمن فرمان (اغلق باسم الشعب) على الدوائر الحكومية والمدارس وغير ذلك من المؤسسات الرسمية، ومن قبل جهات مجهولة، هو مثال سافر على ذلك التدهور والمسارب الخطرة التي انجرفت اليها الاحتجاجات. انها ممارسات وتقاليد تمثل الضد النوعي لما يفترض ان الاحتجاجات قد انطلقت من أجل ازاحته، ويفترض بالمحتجين الحقيقيين التصدي له بوضوح وحزم ومن دون تردد، لما تلحقه تلك الممارسات من ضرر فادح بمعنى وسمعة الحراك وهويته. على ممثلي روح الحراك الحقيقي ولا سيما منهم شريحة الشباب المستقل وغير الملوث بالاجندات وتصفية الحسابات، عزل انفسهم عن مثل هذه الثقافة المميتة “نفذ ولا تناقش” كي يعززوا خطهم المستقل والمفعم بروح الانتماء لمنظومة الكرامة والحقوق والتعددية والحداثة والحريات. لا يتناطح كبشان على ما فعلته سياسات وممارسات الاكراه والتخويف بالعراقيين (افراداً وجماعات)، فهي المسؤولة عن كل هذا الحطام البشري والقيمي الذي يعيقهم، عن اظهار أجمل ما لديهم من شيم ومواهب وقيم، لذلك يعد مثل هذا التوجه (الاعتصام الاجباري) وما سوف يرافقه من عواقب وآثار وخيمة على سمعة الاحتجاجات؛ بمثابة ردة عما تكتنزه الاحتجاجات السلمية من معاني ورسائل وقيم.
لا يحتاج المرء الى كثير من الجهد والذكاء كي يتعرف على حجم الضخ الاعلامي، الذي يحاول بكل السبل استغلال حماسة واندفاع الشباب، كي يدفعهم الى ركوب سبيل (حرق المراحل) ومنعهم من وعي طبيعة وضراوة ما ينتظرهم على طريق انتزاع حقوقهم المشروعة. ان اجبار الناس على المشاركة بالاعتصامات، يختزن لا تلك الثقافة المميتة التي اشرنا اليها وحسب، بل ما يتميز به “الافندية” من نزق وقصر نظر ونفس ولا مسؤولية في التعاطي مع قضايا غاية في الصعوبة والتعقيد. وهذا ما يمكن تلمسه فيما ينضح عن الكثير من المنابر والمواقع والمنصات التقليدية والحديثة، والتي توهم المتلقي بان كل ما ينتظره هو مجرد “صبر ساعة” وغير ذلك من التعاويذ التي ستتبخر سريعاً على أرض الواقع. اليوم ما زال أمر كبح الانجراف لمثل هذه الفخاخ ممكناً، لكن في الغد قد يكون الوقت قد فات على مثل تلك التدابير الوقائية..
جمال جصاني