لا حدود للمفردات والاصطلاحات التي نجترها من دون وجع من عقل او وعي او ضمير، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر مفردة (السيادة) والتي تحولت عند شرائح واسعة من العراقيين الى ما يشبه التعويذة الملازمة لهم في حلهم وترحالهم، يرددونها في شتى المناسبات الخاصة منها والعامة، يجيد السدنة والأوصياء فن إدارة قدراتها السحرية في التأثير على الحشود والأتباع، إذ يرفعون من خلال ايقاعها المؤثر منسوب الحماسة والهيجان أو يخفضونه وفقاً لحاجات لا يفك طلاسمها حتى الراسخون بفقه السيادة والقانون. هشاشة هذا المفهوم وضبابيته (السيادة) لم تعد سرا بعد ما حصل من زحزحات وتحولات وتصدعات هائلة في حال مجتمعات ودول كثيرة ولا سيما في منطقتنا، التي عصفت بها رياح الحروب الاهلية والنزاعات على أساس “الهويات القاتلة”، عندما تشرذمت بلدان كانت حتى الأمس القريب مثالاً على الأمن والاستقرار، لتتحول تعويذتها الوطنية “سيادتها” الى شذر مذر. الحقيقة التي لا يطيق التقرب منها المسكونون بالماضي وثوابته؛ ان مفهوم السيادة وكما غيره من المفردات والاصطلاحات، يخضع لزجر الزمان والمكان وتحول الحال والاحوال، وفي عالم اليوم لا معنى للسيادة من دون وجود مستلزمات العيش الحر والكريم للإنسان من دون تمييز على أساس الرطانة والخرقة والهلوسات. هذه هي السيادة التي علمت إحدى أعظم الأمم في التاريخ الحديث (ألمانيا)، معنى ان تسمح بانتهاكها لمعتوه مثل هتلر في الثلاثينيات من القرن المنصرم، وقساوة الفواتير المادية والقيمية التي ما زالت تسددها حتى يومنا هذا، وكذلك في تجارب محلية مماثلة ومنها تجربتنا المريرة مع “جمهورية الخوف”. فلا سيادة مع العبودية والتبعية والاذلال، وهذا ما يجب ان تدركه جيدا شعوب هذا الوطن الذي عرفت شتى انواع الانتهاكات ذات الطابع الفردي أو الجماعي، والتي لم تنقطع بالرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على زوال النظام المباد ومؤسساته الإجرامية.
لقد عشنا وهم ما أطلقت عليه الطبقة التي احسنت اليها بالسلطة والمواقع والامتيازات؛ القوات العابرة للمحيطات بـ “استرداد السيادة الوطنية” وما اعقبها من استباحات وانتهاكات لم يعرف مثل بشاعتها وهمجيتها تاريخ العراق الحديث (سقوط أكثر من ثلث الاراضي العراقية بيد عصابات داعش صيف العام 2014) وما أعقب ذلك من توازنات وانفلات لسلطة الجماعات العقائدية والعشائرية المسلحة وأشكال لا مثيل لها لهيمنة السلاح الخارج عن مشيئة ما تبقى من أسلاب الدولة والقانون. كل هذه الحماقات والقرارات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية، وما اعقبها من بلاوي وفواتير هائلة وقاسية، لن نعثر في هذه الطبقة السياسية من يجد في نفسه شيئا من الشجاعة ليعترف بمسؤوليته عنها وعن مثل هذا الوعي الزائف الذي تم ترويجه حول السيادة وما رافق ذلك من وغف الشعارات والخطابات والجماعات المقاومة للاحتلال..! ان الحديث عن السيادة في بلد عاش اربعة عقود مع “جمهورية الخوف” وعقد نصف مع إمارات الرعب وأمراء الحروب الطائفية والإثنية والقبلية، لا يعد في أفضل حالاته سوى نوع ملطف من انواع الهراء. لذا ورحمة بما تبقى لدينا من عقل وسلامة الفطرة؛ اتركوا جانباً أمر هذه المفردة المنكوبة (السيادة) الى ما بعد التعرف على الحكومة المقبلة وإمكاناتها الفعلية في استرداد شيئاً من الهيبة للدولة والقانون ورعيتها التي تسمرت أقدامها في انتظار دبش..!
جمال جصاني
يا سادة ما السيادة..؟
التعليقات مغلقة