الحزب الذي شبع موتاً

كما هي دورة حياة الكائنات الحية ومحطاتها المعروفة (ولادة ثم نضج وهرم وفناء) كذلك هو حال الأحزاب السياسية بوصفها حركات اجتماعية تعيش مثل هذه الأطوار، والتي تمتد أو تقصر وفقاً لحيوية ذلك الحزب وقدرته على التجدد وعدم الاستسلام للركود المؤدي الى التفسخ السريع. وما حصل لعميد الأحزاب السياسية العراقية (الحزب الشيوعي) يعدّ مثالاً واضحاً على ذلك، لقد عكست مسيرته خلال أقل من ثلاثة عقود على تأسيسه (1934) الى لحظة اغتيال الجمهورية الأولى (1963) والفشل الذريع الذي رافق استراتيجية الدفاع عنها وعن الآلاف من كوادره وأنصاره، بيد زمرة (المنحرفون) التي لا يتعدى عددهم الألف عنصر؛ هذا القانون الديالكتيكي الصارم لحركة الحياة وتحولاتها التي لا تعرف السكون، الذي دوّنه “غوته” في عبارته الشهيرة (النظرية رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء على الدوام). ومن الأهمية بمكان الإشارة الى ما قاله زعيم الحزب آنذاك (سلام عادل) الذي يتفق فيه مع هذه الحقيقة، بعد وقوع انقلاب 8 شباط العام 1963 وقبل اعتقاله من قبل قطعان الحرس القومي بوقت قصير: (لقد خسرنا المعركة العام 1959 وليس الآن). تعرّض الآلاف من خيرة بنات وأبناء هذا الوطن المنكوب، الى حملات بطش واغتيال واعتقال وتعذيب وإهانة لا مثيل لها، وعلى يد أتعس أنواع الحثالات وأوباش المجتمع، من دون أن يكلف سدنة الحزب أنفسهم بتقديم أبسط اعتذار أو شرح واقعي ومسؤول عما جرى، ليس هذا وحسب، بل لم يمر وقت طويل حتى دعى عدد من أعضاء اللجنة المركزية لحل الحزب والانخراط بالاتحاد الاشتراكي تحت رعاية زعيم الانقلاب الدموي عبد السلام عارف، أو ما يعرف بالأدبيات الحزبية بـ (خط آب). مع عودة البعث للسلطة العام 1968 عادت المفاوضات ثانية معهم، وقبل أن تجف دماء ضحاياهم من زعامات وأعضاء وأنصار الحزب والحركة الديمقراطية العراقية، لتظهر الى الوجود ما يعرف بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، مناخات رفعت منسوب الحماوة لدى سكرتيرهم الأول (عزيز محمد) ليطلق عبارته العبقرية: (سنبني الاشتراكية سوية مع البعثيين) أي عدّهم وفقاً للمعايير (الماركسية – اللينينية) حزباً آخر للطبقة العاملة. حلفاؤهم (البعثيون) لم يحتاجوا لأكثر من أربع سنوات للتعرف بالتفصيل الممل على جميع شبكات الحزب الشيوعي التنظيمية ومن ثم تصفيتها وسحقها (1974-1979). هذه المجزرة أيضاً مرت مرور الكرام، من دون أن يرف جفن للسكرتير الأول ومريديه. وبعد ثلاثة عقود من الموت السريري في المنافي ودول الشتات، عاد “الرفاق” بعد أن استأصل لهم المشرط الخارجي “الإمبريالي” النظام المباد ومؤسساته القمعية، عاد تلاميذ من حاول ذات هذيان “بناء الاشتراكية مع البعثيين” عادوا ليتمتعوا ببركات الغوث العابر للمحيطات، من انتخابات ديمقراطية واستفتاء على دستور جديد والانتقال صوب بناء الدولة الحديثة ومنظومتها القيمية، وعبر أكثر من أربعة عشر عاماً لهذه التجربة برهنوا وبما لا يقبل الشك؛ على حقيقة كونهم عاجزون عن مواكبة أبسط متطلبات العيش والتواصل مع الحاجات الواقعية لشعوب هذا الوطن القديم، أما الدقلات البهلوانية والخطابات المجنحة للبعض منهم، فهي تذكرنا بالأعراض التي أشرنا إليها بعد أن ارتفع منسوب الحماوة لدى المغفور له سكرتيرهم الأول بداية السبعينيات من القرن المنصرم. هذه المراجعة السريعة لا تبقي أي مجال للشك حول حقيقة الموت غير المعلن للحزب الذي جسّد ذات عصر أجمل ما هدهده العراقيون من آمال…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة