المقاطعة… زعل ديمقراطي

مع بدء العد التنازلي لموعد الانتخابات المقرر إجراؤها في الثاني عشر من شهر آيار المقبل، تصاعدت الدعوات لمقاطعتها وعدم المشاركة فيها، ومن أجل التعرف على الأسباب التي تقف خلفها لا بد من التمييز بين هذا الاتجاه للمقاطعة الذي اشتد مؤخراً، وموقف فلول النظام المباد المعادي جملة وتفصيلاً لكل ما يتعلق بمرحلة ما بعد زوال فردوسهم ربيع العام 2003. يضم الميل الجديد لمقاطعة الانتخابات المقبلة شرائح ومستويات شتى من المجتمع العراقي، فيهم البسطاء والمهمشون وفيهم أعداد غير قليلة من المثقفين والمنتسبين لنادي الانتلجينيسيا وشرائح أخرى أصيبت بإحباط شديد بعد ثلاث دورات انتخابية لم تحصد منها غير الخيبة والفشل في التصدي لأغلب الملفات الحيوية التي تكلست مفاصلها بانتظار الحلول. لا يتناطح كبشان على حقيقة ما ستتمخض عنه النتائج النهائية للانتخابات المقبلة، فكما يقول المثل الشامي (المكتوب مبين من عنوانه) والنتائج الأساسية محسومة سلفاً لصالح الكتل المتنفذة، التي رسمت بعناية وحرص كل ما يتعلق بخارطة الطريق الى الصناديق من مدونات وأنظمة ومؤسسات وملاكات تضاعفت خبرتها العملية كثيرا عما كانت عليه بداية المشوار. لكن مع ذلك بمقدورنا التعاطي بشكل آخر مع هذه الحقائق المؤسفة للمشهد الراهن، المتنافرة وما رسمته مخيلات غير القليل منا، من آمال وتطلعات مشروعة للعراق الجديد، من دون الاضطرار لمقاطعة الانتخابات المقبلة. صحيح، لقد مرّ أكثر من 14 عاماً على ما يفترض أنه مرحلة للعدالة الانتقالية التي يتم فيها تصفية مخلفات أبشع تجربة توليتارية في تاريخنا الحديث، لننتقل بعدها الى النظام الاتحادي الديمقراطي، وقد يبدو هذا عمراً طويلاً بالنسبة للأفراد، لكنه ليس كذلك بالنسبة لعمر المجتمعات والدول، لا سيما وأن التحول عندنا قد حصل عبر المشرط الخارجي، من دون حصول تراكمات واصطفافات في القوى والوعي تعضد مثل تلك الانعطافة الحاسمة. كل هذا وغيره يدعو “الزعلانين” على الديمقراطية ومفوضيتها وطابور أحزابها وصناديقها، الى خفض سقف توقعاتهم وبما بنسجم وإمكانياتنا الفعلية في هذا المجال.
لن نكشف سراً عندما ننعت غالبية هذه القوى والجماعات والكتل المتنفذة؛ بكونها في طبيعتها ومتبنياتها الفكرية لا تطيق الديمقراطية كمنظومة فكرية وحضارية وحداثوية، وهي تعتمد آلياتها فقط لأسباب موضوعية وذاتية تمر بها مجتمعات “خير أمة” بعد الردة الحضارية الشاملة التي عاشتها في العقود الأربعة الأخيرة، حيث تتوفر لهم كل الشروط لتسلّق سلالم الديمقراطية من دون وجود أي منافس جدي لهم في هذا المضمار. لكن وبالرغم مما رافق هذه التجربة من خيبات، إلا أنها في نهاية المطاف ستجد حلاً لهذا التناقض (تسلّق اللا ديمقراطيين على سنام الديمقراطية) بعد أن تكشف الملامح الفعلية لما يمكن أن نطلق عليه بـ (قراصنة المنعطفات التاريخية). طبعاً تصنيف (اللا ديمقراطين) هذا لا ينطبق على جماعات الإسلام السياسي المهيمنة حالياً على مقاليد أمور السلطة والثروة والمؤسسات التقليدية فقط، بل يشمل أيضاً ديناصورات القومية بأزيائها المختلفة واليسار الذي لم يبق منه إلا رسمه ويافطاته التي انتهت صلاحياتها منذ زمن بعيد، والتي تتستر غالبيتها خلف عباءة “المدنية” الفضفاضة. وهذا كله يشير بوضوح الى عسر المهمة والجهد الكبير المطلوب بذله لكي تتمكن الأجيال الجديدة من إعادة الاعتبار للبدائل الحضارية والواقعية المتناغمة وتطلعاتها المشروعة في العيش بحرية وكرامة تحت ظل الديمقراطية ومنظومتها المتناغمة وما يومض تحت رماد هذا الوطن القديم.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة