العلمانية شرط الدولة الحديثة

لأهمية ما أشار إليه كونفوشيوس في التعاطي مع اللغة والمصطلحات، أجد نفسي استعين به غير مرة، عندما وضع مهمة إصلاح اللغة على سنام أولوياته، فعندما تستعمل المفردات وتفهم بشكل غير صحيح تشرع الأبواب لكل أشكال الانحرافات وبالتالي الضياع والتخبط في الوصول للأهداف المرجوة. من الأمثلة الفاضحة في هذا المجال، ما يلوكه غير القليل من (عوام وخواص) حول مفردة (العلمانية) والتي حولها الإسلامويون الى مصدر لكل شرور وكوارث العالم بنحو عام ومضاربنا المنحوسة بنحو خاص. من يتابع المشهد الحالي بعد إعلان الحكومة انتصارها العسكري على داعش، سيجد ارتفاع منسوب الحملات ضد ما يطلقون عليه بـ (خطر العلمانية والمنتسبين لناديها) طبعاً بعد أن يعرضوها بأبشع ما تنسجه مخيلاتهم وحنديراتهم وسردياتهم العقائدية من صور وملامح شيطانية، وبعد أن يمهروها بختم الكفر والإلحاد وغير ذلك من منجنيقات القوافل الغابرة. لا نحتاج الى جرد شامل لأضابير الأكاذيب والأضاليل التي تتحدث عن التجارب العلمانية التي جربت حظها بحكم وإدارة هذه المضارب وفشلت فشلاً ذريعاً (لعدم حصول ذلك إلا في مخيلاتهم المريضة) والتي تعد قائد الحملة الإيمانية الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير علمانياً كما غيره من زعماء العصابات والمافيات الإجرامية.
أما لماذا تشن مثل هذه الحرب الاستباقية ضد العلمانية وجيشها الافتراضي وهي على ما أشرنا اليه من محدودية وضعف في النفوذ والتأثير؟ فذلك ما يجب التوقف عنده وفك طلاسمه.
عندما نتابع المعطيات الفعلية للمشهد الحالي لا في العراق وحسب بل في جميع ما يحيط بنا من بلدان وما يجري من أحداث وتطورات، نجدها تشير غالباً الى الطرق المسدودة التي انحدرت اليها تجارب ما يعرف بـ (الإسلام السياسي) وهذا سيؤدي آجلاً أم عاجلاً الى البحث عن بدائل واقعية تنتشل عيال الله من هذيانات من نصّب نفسه “من بعد الله” كما قال الماغوط في أحد نصوصه المسرحية “عمرها ما كانت مشكلتنا مع الله بل مع من يعتبرون أنفسهم من بعد الله”. وهذا يعني تلمس الطريق الى السبيل المجرب الذي حفظ للعالمين (الدنيا والآخرة) كرامتهما ومكانتهما، من دون مزاودات بائسة في بازار التقوى والعفة والإيمان. لا يتناطح كبشان على حقيقة أن العلمانية منظومة انبثقت بعد سلسلة من الثورات العلمية والقيمية والسياسية، في الوقت الذي كنا نغط بسبات طويل وعميق، لذلك لاقت محاولات نقلها الينا في بدايات القرن المنصرم مصائراً تراجيدية، ولم تنجح نسبياً إلا في بلدين هما تونس وتركيا، اللذان تعرّضا الى تهديد جدي بعد ما عرف بـ “الربيع العربي”. أما الحملات التي تشهدها البلدان الخاضعة لهيمنة الأحزاب والجماعات الإسلاموية، ضد العلمانية، فهي بالرغم من ابتعادها عن الموضوعية والإنصاف، تحمل جانباً إيجابياً إلا وهو إقرار هذه الجماعات على نوع الخطر المقبل الذي يهدد فعلياً نفوذهم ومكانتهم الحالية؛ أي السبيل العلماني القادر وحده على فك الاشتباك ما بين مستلزمات عالمي الدنيا والآخرة. أما أن جمهور هذا السبيل (العلمانية) قليل ومحدود فهذا يعكس محدودية قدرات هذه المجتمعات وطول فترة السبات والاغتراب الذي عاشته بعيداً عما صنعته الأمم الحرة، وهي محنة ستصدع أسوارها شبكات الاتصال والتواصل الحديثة، لتتحق عبارة ابن رشد لأحد تلامذته لحظة حرق كتبه: (إن كنت تبكي حال المسلمين فبحار الأرض لن تكفيك دموعاً، أما الكتب فاعلم أن للأفكار أجنحة تطير لأصحابها)..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة