عندما استباحت عصابات الهمجية والاجرام (داعش) ثاني المدن (الموصل) وثلث الاراضي العراقية؛ لم يشكل ذلك أمراً غريباً على ثوابت هذه الامة وتقاليدها في مجال الاستباحات والغزوات عند القدرة والاستطاعة، وهذا ما يقره السواد الأعظم من “علماء” خير امة، ومدوناتهم التي تحتفي بفقه (ذو الشوكة) حيث الملك والسلطة والشرعية للأشد فتكاً من العصابات والجماعات المتناهشة على السلطة والجاه والثروات والعقارات والاطيان. داعش حولت ما جاء في تلك المدونات الى واقع من دون مواربة وبشكل سافر وواضح، لا كما يحصل مع من ما زال مستلقياً على عقارات واملاك الدولة والاقليات الدينية والجماعات التي استضعفت بعد الفتح الديمقراطي المبين ربيع العام 2003. لم يبق سوى ثلاثة أشهر على مرور 15 عاماً على زوال النظام المباد وانطلاق الحوسمة الشاملة والمسيرة العظمى لاستيطان المنطقة الخضراء وما يتجحفل معها من أسلاب، تحت وابل كثيف من قذائف ما يعرف بـ “الثروات مجهولة المالك” وغير ذلك من ابتكارات القرن السابع الهجري العبقرية، رغم مرور كل هذا الوقت ما زالت تلك الاملاك والعقارات المسلوبة بيد اللصوص تحت شتى الذرائع المخزية، وما زالت مؤسسات الدولة واجهزتها المعنية بهذا الشأن عاجزة أو متواطئة مع هذه الاوضاع الشاذة.
ان الحرب ضد الفساد والتي اعلنت حكومة السيد العبادي بانها تشكل رأس أولوياتها المقبلة، لا تحتاج الى المزيد من الشعارات والاهازيج والولائم والمؤتمرات والحملات الاعلامية البائسة والمملة؛ بل الى خطوات واضحة وملموسة، وبمقدورها كسب المصداقية من خلال تحرير جميع الاملاك المستباحة ومقاضاة من اباح لنفسه مثل تلك الانتهاكات للاملاك العامة وعقارات الآخرين، عبر تلك الخطوات والقرارات يمكن التاكد من جدية الحرب المعلنة ضد الفساد بشتى اشكاله وتجلياته. يفترض بهذا الكم الهائل من المستشارين والمختصين وحاملي الالقاب والعناوين “العلمية” المحيطين بالسيد العبادي وفريقه، ان ينهضوا بمهمتهم الاساس الا وهي اعادة ترتيب الاولويات وعلى رأسها ملف الثروة تراكمها وتوزيعها وحيازتها، فمن دون معرفة مصدر ثروات الافراد والجماعات قبل “التغيير” وبعده؛ يكون امر التصدي للملفات الاخرى (الامنية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية و..) أقرب الى المستحيل، وهذا ما برهنت عليه تجارب الدول والمجتمعات التي شقت طريقها الى الاستقرار والازدهار.
لم يعد لدينا المزيد من الوقت لنهدره في منهج تشكيل واعادة تشكيل اللجان، ذلك السبيل الذي تحول الى ركن من اركان الفساد وشبكاته الممتدة لكل تفصيلات حياتنا، ان استعانة الحكومة بالمحققين والخبراء الدوليين في الشان المالي، يعد خطوة جادة وحكيمة على هذا الطريق، كما ان طرح مشروع قانون (من أين لك هذا؟) على مجلس النواب والاصرار على اقراره سريعاً، يمكن أن يشكل بداية رصينة، وهي تحتاج الى ملاكات وفريق عمل مهني وشجاع وغير مرتبط ببرك المحاصصة الآسنة، والى حراك داعم لها عبر زج كل الروافد السليمة في المجتمع ومؤسسات الدولة المختلفة في هذه الحرب المتعددة الجبهات. ان تحديد مهمة تحرير العقارات والاملاك المستباحة كمنطلق وبوابة لهذه الحرب المصيرية، هي خطوة سليمة وتعبر عن وعي بمتطلبات هذه الحرب الشاملة، والتي ستكشف بدورها نوع الحلقات المقبلة وأشكال المواجهة مع هذا الاخطبوط الذي تمتد جذوره الى اعماق تاريخنا الحديث والقديم..
جمال جصاني
العقارات والاملاك المستباحة
التعليقات مغلقة