عندما نتابع مجريات ما يعرف اليوم بـ (الحرب ضد الفساد) التي تعهد السيد العبادي بخوضها تزامناً والانتصارات العسكرية التي حققتها القوات الحكومية وحلفاؤها ضد رأس رمح الإرهاب (داعش)؛ نجدها لم تخرج حتى هذه اللحظة عن مسار بقية الفزعات على هذا الطريق، أي مطاردة البعوض وأسرابه المنفلتة هنا وهناك، من دون أية بادرة مارقة صوب مستنقعاته المستلقية بثقة واطمئنان على شتى تفصيلات حياتنا المادية والقيمية. منذ لحظة زوال النظام المباد قرعنا أجراس الحذر من بواكير ذلك الفساد، الذي تجلى بشكل فاضح في هرولات “أولي الأمر الجدد” الى أسلاب المنطقة الخضراء، حيث لم يمر وقت طويل حتى تحولت الى أكبر مستودع لمستنقعات الفساد من شتى الوظائف والأشكال والأحجام. لقد تابعنا مجريات تطور هذا الوباء (الفساد) قبل زوال النظام المباد بزمن طويل، وبسبب من حالة الركود والتعفن الطويلة، فقد تسللت شبكاته الاخطبوطية الى كل مجالات حياتنا داخل الوطن وخارجه، ومن دون أخذ هذه الحقائق بنظر الاعتبار لا يمكن انتظار أية خطوات جادة في الحرب ضده.
في المشهد الحالي لم تلوح لنا إشارات جادة على هذا الطريق، لا سيما وأن هذه “الحرب” ما زالت محدودة ضمن الادعاءات الحكومية، أي بمعزل عن وعي ونشاط شعبي منظم داعم لها (وهنا لا نحتاج للتطرق لواقع حال النقابات والجمعيات المهنية وما يسمى بمنظمات المجتمع المدني، والتي يشكل الكثير منها جزءا من معسكر الفساد)، كما أن الميدان الأهم في مثل هذه المواجهات (الفكر والإعلام) ما زال مطمئناً لأدواته ومنظومته وملاكاته المسؤولة عما انحدرنا اليه في مرحلة كان من المفترض أن تكون ورشة عمل للعدالة الانتقالية والتحول صوب العراق الديمقراطي الاتحادي الجديد، حيث لا يمكن تبرئة هذه المؤسسات والعاملين فيها مما جرى لنا قبل زوال النظام المباد وبعده. لم يحصل تحول يتناسب وادعاءات “التغيير” و “الإصلاح” وغير ذلك من يافطات ترفع في مضاربنا المنكوبة من دون أدنى وجع من عقل وضمير.
لا يحتاج المرء الى جهد كبير كي يدرك حقيقة أن زمام المبادرة ما زال تحت تصرف قوى الفساد وحيتانه، ويمكن التأكد من ذلك عبر ما يمكن أن نطلق عليه بـ (حربه الاستباقية) لإجهاض كل مسعى للتقرب من ضفاف مستنقعاته ودفعه بشكل محنك الى حيث أسراب بعوضه المخصصة لمثل هذه الفزعات، وما إعادة تدوير أهم مفوضية حالية (المستقلة للانتخابات) على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية وبقية معايير التشرذم؛ إلا مثالا واضحا على ما يمتلكه هذا الوباء من قوة واقتدار ودهاء. إن أية محاولة جادة ومسؤولة لفك طلاسم هذا الوباء العضال، لا يمكن أن تشرع بالعمل إلا عبر بوابة الثقافة والفكر، وما هو سائد اليوم منهما (شعبياً ورسمياً) يتنافر تماماً والحرب المزعومة ضد الفساد، فمن تلقف مقاليد عراق ما بعد “التغيير” مسكونون بهموم واهتمامات وثارات عصر ما قبل المغفور له كوبرنيكوس، وهذا ما نضح عن هرم أولوياتهم وسياساتهم طوال أكثر من 14 عاماً من “التغيير”. لذلك ستكتفي الفزعة المقبلة بعدد من القرابين والأحجام المختلفة من البعوض بعيداً عن مستنقعاتها وكتلها وأحزابها ومنظوماتها العقائدية المسؤولة عن ترشح كل هذه (الملاكات- البعوض) الى هرم السلطات ومستوياته الأخرى…
جمال جصاني
بعوض الفساد ومستنقعاته
التعليقات مغلقة