محبس وبيرية

من الآمال التي أهدرت بعد حقبة “الفتح الديمقراطي المبين” تتعلق بحلم تحويل العراق من أكبر ثكنة عسكرية عرفتها المنطقة؛ الى ورشة للبناء والتنمية والازدهار الاقتصادي والاجتماعي. فلم يمر وقت طويل على انهيار ذلك الجيش العرمرم واستباحة مواقعه ومؤسساته وثكناته وأسلحته، من قبل شريحة واسعة من منتسبيه وشركائهم من خارج المؤسسة العسكرية عشية الهزيمة الماحقة التي لحقت به، ومن ثم حل الجيش والأجهزة الأمنية بقرار من الحاكم المدني (بريمر) حتى انطلقت عمليات عشوائية واسعة لإعادة تشكيلها وبنحوٍ أوسع وأشد هشاشة مما كانت عليه. وكما هو الحال في الحقول الأخرى (المدنية) لم تتصدى لمثل تلك المهمات الانتقالية ملاكات مؤهلة للتحول من النظام الشمولي صوب الديمقراطية والتعددية والحداثة. بالرغم من مرور مدة طويلة نسبياً على زوال النظام المباد (أكثر من أربعة عشر عاماً) والنكوص الذي لحق بمشروع التحولات واسترداد العسكرة لهيمنتها وسطوتها مجدداً، حيث يمتلك العراق “الجديد” أكبر عدد من الجنرالات لا في المنطقة وحسب بل في العالم كله مقارنة بعدد سكانه؛ يصعب العثور من بينهم على جنرال ديمقراطي، أي قائد عسكري يكرس كل مواهبه وإمكاناته دفاعاً عن التجربة الديمقراطية وفلسفتها ومنظومة قيمها الراقية. خيبة الأمل هذه يمكن التعرف عليها في الدقلات التي شهدتها بورصة الولاءات، حيث أصابع غير القليل من الجنرالات وبقية الرتب المرصعة بكل أنواع المحابس، قد وضعت بصمتها على القيافة العسكرية للعهد الجديد، لتسد شيئاً من الحاجات والممارسات وأنماط السلوك التي أدمنت عليها شريحة واسعة من المنتسبين للمؤسسات العسكرية والأمنية زمن النظام المباد، ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن الطبقة السياسية الحالية قد اعتمدت على الكثير منهم لإعادة بناء هذه المؤسسات الحيوية، والتي يفترض أن تسترد هويتها المهنية والمستقلة بوصفها (فوق الميول والاتجاهات العقائدية والآيديولوجية) لا كما حصل لها من استباحات شعبوية، تمت تحت رعاية ومباركة قوى وكتل “الهويات القاتلة”، وما انتشار ظاهرة المحابس وغيرها من الرموز الدينية والطائفية بين المنتسبين لها؛ إلا مثال واضح على ذلك الخلل البنيوي المتنافر وهوية هذه المؤسسات ووظائفها الدستورية.
لقد حذّرنا مراراً وتكراراً من التهاون والمواقف غير المسؤولة، التي تقف خلف هذه الاستباحات لباكورة المؤسسات (الجيش وبقية الأجهزة الأمنية) التي وحدت شعوب هذا الوطن القديم تحت لواء الدولة العراقية الحديثة في الربع الأول من القرن المنصرم، ودعونا الى تصفية ما خلفه النظام المباد من آثار التمييز والتفرقة وفرض العقائد والآيديولوجيات الحزبية العابرة، غير أن “أولي الأمر الجدد” لم يلتفتوا لكل ذلك، وواصلوا هرولاتهم على خطى ذلك المخلوق الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير بعيداً عن نياشينه ورتبته المستعارة. إن الانتصارات الأخيرة لقواتنا المسلحة، على أعتى وأشرس عصابات الإرهاب العالمية (داعش) وتحريرها لكامل التراب العراقي، قد كشف عن إمكانات واعدة للشروع بعملية الإصلاح البنيوي، كي تسترد هذه المؤسسات مكانتها ووظائفها المهنية والمستقلة خدمة للوطن ونظامه الديمقراطي الاتحادي الجديد. صحيح أنها مهمة صعبة وعسيرة، وستلاقي مقاومة شديدة من بقايا ديناصورات هذه المؤسسات التي ما زالت تحن لتقاليد العمل والسلوك الخاصة بالأنظمة الشمولية السابقة، إلا أنها تحولات لا بد منها لتأكيد جديتنا في التعاطي مع ملف الفساد والذي يزود بقية ملفات الإرهاب والتشرذم والانحطاط بكل ما تحتاجه..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة