فزاعة مزدوجي الجنسية

من العلامات التي تميّز المجتمعات “المضيعة صول جعابها” عن المتوازنة في سلوكها هي؛ في نوع اهتماماتها وأولوياتها والتحديات التي تواجهها. لجملة من العلل والأسباب التي تطرقنا إليها مراراً، تصدّرنا قائمة الدول المنكوبة بضياع “صول جعابها” أي المعايير السليمة والمجربة التي انتشلت المجتمعات والدول عند مفترق الطرق. عندما نتصفح قليلا في نوع الاهتمامات والهموم التي تستفرد بما تبقى من عقل وضمير لدى جماعات وأفراد هذا الوطن المنكوب؛ نجد سوادها الأعظم لا يمت بصلة لا من قريب ولا من بعيد بما شغل عقول وضمائر الامم الأخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر قوانة “مزدوجي الجنسية” ذلك الاكتشاف العبقري الذي أطاح بكل طلاسم وأسرار هزائمنا العضال قبل “التغيير” وبعده..!
المختبرات التي أهدتنا هذه الكبسولة “مزدوجي الجنسية” ومروجيها في بورصة المزاودات، يقسمون بأغلظ عبارات الحماسة والإيمان، بأن أصحاب تلك الوثيقة الأممية وراء كل هذا النحس العضال الذي هبط على مضاربنا (الآمنة) تزامنا وعودتهم الى العراق. ولتأكيد ذلك يقدمون لنا عدد من الأمثلة لأشخاص عادوا الى الوطن وهربوا ثانية بعد سرقتهم وخيانتهم للمسؤولية التي أنيطت بهم، ملقين كل المسؤولية على الجنسية الثانية التي يحملونها، والتي حمتهم من مواجهة ما يستحقونه من مصير. أكاذيب تسري وتتمدد من دون أن تتلقى أي ردع جدي لها، فما علاقة امتلاكك لجنسية أخرى بقضايا الفساد والسلوك المنحرف، لا سيما والملايين منا قد اضطروا للهجرة والفرار بعيداً عن العراق لأسباب وصلت أخبارها لسكان الأدغال والأقاليم النائية، ومن هؤلاء عدد واسع من الذين وضعوا بصماتهم المميزة في الخلق والإبداع والابتكار في بلدان الشتات التي احتضنتهم بعد مشوار من الحيف والضيم والقصص المأساوية. كل جنسيات العالم لا يمكن لها أن تحمي من ارتكب جريمة في أي مكان، ومدونات القانون الدولي وبنوده واضحة في هذا المجال (ويفترض بمن وضعته الصدفة التأريخية ذات يوم وزيراً للعدل أن يفهم مثل تلك البديهيات). الخلل في مكان آخر لا علاقة له بنوع الوثائق والعناوين التي يحملها البشر، إنه في ضياع سلطة الدولة والقانون، ونوع المؤسسات والإدارات المتواطئة مع قوارض المسؤوليات والمال العام.
مثل هذه الفزعات الخاوية التي لا تكل ولا تمل، لا تدفعنا بعيداً عن التحديات الواقعية التي تواجهنا، عبر المزيد من عناوين التشرذم والتمزق والضياع وحسب، بل هي تدفعنا بعيداً عن السراق الحقيقيين وعلل كل ذلك الفساد الذي نواجهه. لا يحتاج اللص والفاسد والقاتل الى جنسية بلد آخر كي يمارس هواياته الشاذة، وتجربتنا المحلية طافحة بالكثير من مثل تلك المخلوقات والشخصيات الإجرامية والمشوهة، زمن النظام المباد وبعده. هذا يدعونا لتسليط الضوء على مغزى تلك الدعوات (لمحاربة طواحين الهواء) وفضح ما ترمي اليه من تشويه وتضليل ممنهج ومقصود، كي نبقى بعيدين عن التحديات الأساسية في ميادين التنمية والمعرفة والخدمات وتعزيز سلطة الدولة والقانون. لنمتلك مثل تلك المستلزمات والمؤسسات والتشريعات المجربة، عندها نجد كل هذه الوثائق والجنسيات والتجارب المتعددة قد انخرطت في مهمة استرداد هذا الوطن القديم لمكانته ودوره في عالم حولته التعددية والحداثة والحريات الى قرية كونية تحتفي بالمواطن الكوكبي لا باصطبلات ومغارات وسرديات وفزعات ما قبل الدولة الحديثة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة