برغم الاتفاق شبه الجماعي على أن “الوسطية” هي الخيار الأسلم لحل الاشتباكات المتعددة والمتجددة بين البشر؛ إلا أننا نادراً ما نجد تجليات ذلك على أرض الواقع، إذ التطرف والاندفاعات الهوجاء هي المهيمنة على مقاليد الأمور زمن النظام المباد وعند ورثته الحاليين. سابقاً تمكن المخلوق، الذي انتشلته القوّات العابرة للمحيطات مذعوراً، من محق كل ما له صلة بالحكمة ورأي الشجعان والمواقف المسؤولة من على تضاريس هذا الوطن المنكوب بوباء الرسائل الخالدة وسكراب العقائد، واليوم يواصل جيل الرسائل الخالدة إرثه برطانات وديباجات تتفق وذائقة الأجيال التي نمت وترعرت على إيقاع أناشيد وأهازيج تلك الحقبة المصخمة. عندما نتمعن قليلا بعلل كل هذا الفشل والعجز الذي رافقنا طوال ما يفترض أنه مرحلة (للتغيير) سنجده في الأجيال الشابة المنوط بها في مثل هذه المراحل الانتقالية للمجتمعات، مسؤولية قيادتها وتوجيهها صوب المعابر الآمنة والمجربة، هذه الأجيال (من العقد الثالث الى العقد الخامس) يغلب عليها ذلك الإرث المميت الذي خلفته أربعة عقود من الهيمنة المطلقة لأبشع نظام توليتاري عرفه تأريخ المنطقة الحديث. بهمة وحماسة هذه الحشود المغيبة، نمت وتورمت كتل الخراب الحالي وبسطت هيمنتها على كل الدورات الانتخابية التي جرت منذ سقوط النظام المباد الى يومنا هذا.
لم يظهر لدينا أية سلطة أو قوة أو كتلة أو شخصية مؤثرة، وجدت لديها الجرأة لمواجهة كل هذا الانحدار الممنهج الى الحضيض، ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ فضيحة العدد الهائل للأحزاب والتنظيمات التي ستشارك في الانتخابات المقبلة، والتي تجاوز عددها الـ (200) حزب، هذه المعطيات التي تحدد لنا مسبقاً نوع السلطات التي ستتشكل ونوع المصائر التي سترسم لنا بعد كل هذه الكوارث التي عشناها برفقتهم. منذ زمن بعيد والمصائب تتدافع على مضاربنا، لا كما يروج فلول تلك التجارب البائسة وحطامها، من كونها انتقاماً من السماء لسوء أخلاقنا وانحرافنا عن خارطة طريقنا وثوابتنا الجليلة، أو أنها من صنع شياطين العصر الحديث التي اختصتنا بعدائها من دون خلق الله جميعاً، وغير ذلك من القوانات التي تستمد غالبية وسائل الإعلام الموجهة لنا أخبارها وبرامجها وخطاباتها منها ومن تراتيلها الجاهزة. لذلك ومع مثل هذه المناخات من غيبوبة العقل والضمير، تصبح مهمة الوصول الى علل هذه القسمة العاثرة عسيراً، بالرغم من بساطة وسهولة الوصفة المناسبة للشفاء من مثل هذه الدوامة من العجز والفشل؛ والتي يمكن إيجازها بمفردتين هما: الوسطية والخدمات.
مفردتان تعدان في مضاربنا المنحوسة، وعلى العكس مما حظيتا به عند الأمم والمجتمعات التي وصلت لسن التكليف الحضاري؛ بأنهما من الحلول البطرانة والبعيدة كل البعد عما يشغل المنتسبين لنادي “خير أمة” من هموم واهتمامات متسامية عن كل مايرتبط بإغواءات هذا العالم الفاني، وما الاسترداد الأخير للفردوس المفقود (الخلافة) على ولايات العراق والشام، إلا دليل واضح على نوع الاهتمامات التي تشغل هذا النوع من الأجيال المسكونة بأطياف الماضي الأغبر. الوسطية والخدمات يمثلان اليوم ركنان أساسيان في استقرار وتطور ما يعرف بـ (الأمم الحرة) وهما غرستان تشترطان وجود مناخات من العقلانية والحيوية والحكمة، تلك الشروط المنبوذة في مضاربنا منذ أكثر من ألف عام وعام…
جمال جصاني
الوسطية والخدمات
التعليقات مغلقة