بالرغم من وجود مشتركات قيمية بين التيارات المتشددة التي تعتمد الدين وشعاراته ورموزه للوصول الى غايات سياسية ودنيوية صرفة، والحركات والجماعات المتطرفة التي عرفها تاريخنا القديم، الا ان الشروط والبيئة المسؤولة عن نسخها الحديثة، تختلف عما عرفناه عن تلك الجماعات المندثرة. فالاخيرة نتاج طبيعي واصيل لحاجات عصرها وتحدياته، وهي في غالبيتها تستمد خصائصها من منظومة القيم والسلوك المهيمنة آنذاك، فالقسوة والهمجية في التعاطي مع الآخر المختلف كانت جزء مألوفاً منها، لكن بعث الروح في ذلك الركام الذي انتهت صلاحيته منذ أمد بعيد، يشير الى وجود عطب وخلل بنيوي لا بد من مواجهته لتفادي الفواتير الباهضة لمثل تلك الاندفاعات المأزومة. ان صعود تيارات الاسلام السياسي في العقود الاخيرة، ترافق وما عرف بنكسة حزيران (هزيمة مصر العسكرية أمام اسرائيل عام 1967) والتي عدتها جماعة الاخوان المسلمين بمنزلة عقاب الهي لنظام جمال عبد الناصر “العلماني” وباقي الانظمة السياسية التابعة للثكنات العسكرية والأمنية. بعد ذلك شرعت الابواب لكل اليائسين من رحمة الارض والسماء ومن ثورات التحرر القشرية التي اعادت انتاج مؤسسات حداثوية للقمع والقهر ومسخ البشر، لأن تلوذ بـ (الحل) الذي أكتشفته الجماعة بعد ان فقدت الامة خليفتها الأخير من آل عثمان.
حقبة النبش في أسمال الماضي واحكامه ووصفاته السلطانية، انتهت بنا الى الاحتفاء بالزي الافغاني والباكستاني واقامة مهرجانات لسن التكليف الشرعي لاطفال الامة، ودخول أفواج الفنانات في ام الدنيا وما جاورها من مضارب الى نادي الحجاب الشرعي وموديلاته الحداثوية.
هوس لا مثيل له انتاب الافراد والجماعات ببركة التدفق اللامحدود لسيول البترودولار المؤمن، والحماسة التي رافقت الحملات الايمانية المدعومة من المخلوقات المولعة بلقب (الرئيس المؤمن)، كرنفالات الايمان الجمعي هذه تزامنت مع يباب لا ضفاف له استفرد بروح الانسان ووجدانه، ذلك التصحر القيمي والذي هو الوجه الآخر لذلك التورم الايماني المأزوم والذي نشاهد بعضاً من تجلياته البشعة في مشاهد القتل والارهاب والتنكيل السائدة اليوم، يدعونا لان نتصدى لهذه الردة الحضارية المنحدرة الينا من مغارات البرك الراكدة ومضارب العجاج. خاصة وان الحفل التنكري لفرسان وغايات هذه الحقبة قد وصل لفصله الأخير، بعد ان تجرعنا نحن سكان هذه الاوطان المنكوبة نوع الحصاد المر لمختلف انواع التجارب الاسلاموية، المسكونة بوهم الفردوس المفقود من نسيج الخلافة الاسلامية واشكال الأنظمة السياسية التي حجزت مواقعها في متاحف التاريخ بعد صولات البوكو التي حولت عالمنا المترامي الاطراف الى قرية رغم أنف فزعات الاشقاء النيجيريين المستميتة عند حافات الدفاعات الأخيرة..
جمال جصاني