لم اطّلع على أمة أو شعب ما؛ تتجرأ على مهاجمة الآخرين والنيل منهم، كما هو حال المنتسبين لنادي “خير أمة” من العرب وغير القليل من المسلمين. قاطرات من الهراء والاستخفاف والاستهتار تنطلق من أفواه وأقلام الكثير من المتنطعين لوظائف العمل الفكري والثقافي والإعلامي، ضد مجتمعات وثقافات ومنظومات دول ارتقت الى ذرى لا مثيل لها في شتى الميادين العلمية والاقتصادية والقيمية، وابل لا يمل ولا يكل من الاتهامات ضد كل ما يمت بصلة لما يطلقون عليه تسميات (الامبريالية أو الشيطان الأكبر وبقية القافلة من الشياطين المتجحفلة معه) من دون أن يكلفوا أنفسهم في الالتفات قليلاً للخزين الهائل من البلاوي والمخازي التي سطروها في الكثير من محطاتهم وتجاربهم هم ومن سبقهم على هذا الطريق.
بالنسبة لي شخصياً لم تسنح لي الفرصة للتعرف على أي من تلك البلدان عن قرب (الغرب) كما حصل مع الآخرين، هربت من العراق نهاية السبيعينيات الى كردستان ومنها الى إيران وسوريا وعدت مباشرة من دمشق الى بغداد بعد سقوط النظام المباد مباشرة. مع ذلك أدركت وصية ارسطو الخالدة (أعرف نفسك أولاً) وعندما نترجمها الى الشأن السياسي والمعرفي، تعني أن نبدأ في التعرف على أنفسنا كسكان لأحد أقدم الأوطان وعلل انحدارنا الى كل هذا الحضيض الذي نتخبط وسطه اليوم. هذه المهمة التي لم يتجرأ إلا القليل من الأحرار والمثقفين الحقيقين على التقرب من ضفافها، وقد دفع الكثيرون منهم حياتهم لأجل ذلك. حتى هذه اللحظة وبالرغم من النتائج الفاضحة والسافرة والكارثية التي خلفتها التجربة الإسلاموية الأكبر في التاريخ الحديث (داعش) يصر السواد الأعظم من “المثقفين” وخلفهم العوام؛ على إرجاع نسب هذه النسخة المنحدرة الينا من رحم “الرسائل الخالدة” الى الامبريالية والصهيونية والماسونية وغير ذلك من الشماعات الجاهزة. لا أحد منهم يملك شيئا من الفضول للتقرب من كل هذه الاحتياطات الهائلة من الخطوط الحمر ومحيطات المسكوت عنه في تاريخنا القديم والحديث، لذلك نشاهد عدد لا يحصى من المقاتلين في صفوف داعش والعصابات الإسلاموية الأخرى قد ولدوا وعاشوا في الغرب، ولم يحصنهم ذلك من السقوط في الحضيض الذي تمثله تلك الجماعات، كونهم ظلوا أسرى لقصص وسرديات لم تعرض يوماً للعقل النقدي وأدواته التي انتشلت سلالات بني آدم من عصور الهمجية والظلام الى الحداثة والتعددية وشرعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ما تعيدون اجتراره في كل مناسبة حول ما جرى في الحروب الصليبية أو جرائم أميركا مع الهنود الحمر أو الزنوج وغير ذلك من المحطات المشينة في تاريخها أو الجرائم التي ارتكبتها عصابات اليمين المتطرف الصهيوني ضد المدنيين الفلسطينين وغير ذلك من الانتهاكات العديدة، لا تحتاج الى كل هذا الضجيج للتعرف عليه وإقراره، فهي قد تعرضت لديهم الى ما يكفي من البحث والدراسات المسؤولة والموضوعية، ويصعب أن تجد بينهم من يؤيد أو يحتفي بها، كما يحصل لدينا من عمليات ممنهجة لإعادة تدوير ما دونه اللصوص والقتلة والمشعوذين من سرديات للدمار الشامل، والتي ما زالت حتى هذه اللحظة موضع اعتماد أكاديمياتنا ومراكز بحوثنا ومنابرنا المتعددة الوظائف والأشكال، والمتواطئة بشكل مذل مع كل ذلك الإرث من العبودية والانحطاط. عندما ننتج “خامنا وطعامنا” ولا أضيف شيئاً من القائمة اللانهائية للحاجات المتعاظمة يوماً بعد آخر من مستلزمات عالم اليوم، يمكننا عند ذاك التطفل على عيوب ونواقص الآخرين…
جمال جصاني
يا لجرأتكم على الآخرين..!
التعليقات مغلقة