الإنتاج يجمعنا

منذ أن كنا صغاراً حفظنا العبارات التي تمجّد الوحدة وتحذّرنا من الفرقة والتشرذم، فالوحدة ترافقها القوة والهيبة والازدهار، ولا تجلب التفرقة غير الضعف والهوان والذل. تجليات مثل تلك التعاليم شاهدناها في الكثير من تجارب الشعوب والأمم في عالم اليوم، لكن الطريق الذي سلكوه لا يشبه منهجنا المثقل بالمواعظ والخطب الإنشائية، التي لا تكل ولا تمل عن اجترار نفس الجنجلوتيات الفارغة حول ذلك، من دون الالتفات الى سر كل تلك النجاحات التي حققتها الأمم الحرة في هذا المجال، ألا وهو الاقتصاد وإنتاج الخيرات المادية والمعنوية، ذلك الحقل الذي تكرم فيه الأمم أو تهان. لا نحتاج الى هدر المزيد من الوقت والإمكانات خلف فصول جديدة من الاستعراضات والمواعظ الخاوية حول الوحدة الوطنية والشراكة، وغير ذلك من المشاريع مقطوعة الجذور، لأن نمط الإنتاج الريعي والطفيلي لا ينسجم مع مثل تلك التطلعات المشروعة للحاق بالأمم التي أكرمتها الأقدار بورش العمل والإنتاج والتنمية والإعمار. يمكن التأكد من هذه المفارقة القاسية، من المعادلة المقلوبة المهيمنة اليوم على المشهد الراهن في مضاربنا المنكوبة، بصعود نجم شيوخ الدين والعشائر وبقية الشرنقات الاجتماعية الضيقة، بالضد مما حدث في البلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري؛ عبر إعادة رجال الدين وممثلي هذه القوى التقليدية الى مواقعها ووظائفها، وبالتالي الحد من شراهتها المنفلتة في التهام دور ووظائف الآخرين، ووضع التشريعات التي تحمي السلطات المستقلة وتنتصر للتخصص والإبداع والخلق والابتكار.
نحتاج الى الكثير من الحكمة والتواضع والاستعداد للتعلم، كي ننتشل مشحوفنا المشترك من مثل هذه المصائر التي عشناها برفقة زمرة الحمقى والمتبجحين وهذا الركام الهائل من سرديات ومواعظ الدمار الشامل. ليس أمامنا غير إعادة الروح والاعتبار لورش الإنتاج والنشاط للمهن الحديثة منها والتقليدية، وعندما تتحرك هذه القاطرة المجربة ستتلاشى كل مخلوقات التشرذم تحت عجلاتها المندفعة الى تخوم الهموم والتحديات الواقعية لا الخرافية المتبخترة اليوم في كل تفصيلات حياتنا الفردية والجمعية. إن اختلاف المذاهب والعقائد والثقافات والرطانات والأزياء، لم تعد تشكل عقبة أو عائقاً أمام وحدة الأمم والمجتمعات وحسب بل تحولت في النظم الديمقراطية المستندة على أساس وطيد من إنتاج الخيرات المادية وتراكم الثروة وتوزيعها، الى ركيزة من ركائز القوة والثراء المادي والمعنوي للأمم والدول، وما “لملوم” أعظم دولة عرفها تاريخ البشر (الولايات المتحدة الأميركية) إلا مثال واضح على ذلك. لم يعد التنوع القومي والإثني أو الديني والمذهبي وغير ذلك من الهويات الفرعية والتقليدية عاملاً للفرقة والتشرذم والهوان في المجتمعات التي أدركت روح عصرها وهمومه الواقعية، هي كذلك فقط في المجتمعات التي انقطعت واغتربت عن مواكبة تطورات عصرها، في المجتمعات التي ما زالت عاجزة عن إنتاج “خامها وطعامها” وظلت عالة على ما يتصدق به الرزق الريعي عليها وعلى حيتانها المتخصصة في مجال الاستثمار بمستنقعات الأحقاد والثارات الصدئة. إن سر حيوية هذه القوى والعقائد والشخصيات على إعادة إنتاج نفسها بعد كل هذه الكوارث التي حلت علينا، يجب البحث عنه في هذا الاغتراب الهائل الذي تعيشه مجتمعاتنا عن مصدر ازدهار وتراص الأمم (المعرفة والاقتصاد) واللذان يعيشان في مضاربنا المنحوسة ما يعرف بـ “أرذل العمر”…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة