نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 12
الفصل السابع
العودة الى أمانة العاصمة

مدحت الحاج سري أمين العاصمة، غرق بغداد 1968، معمل معالجة النفايات لإنتاج الاسمدة العضوية، تحديات تخطيط بغداد والمؤتمر الاول لمنظمة المدن والعواصم العربية , مؤتمر منظمة الصحة العالمية WHO في موسكو, تحديد المنطقة الخضراء واغلاقها , مجلس الامانة يرفض تخطيط بغداد واستقالتي من الامانة.

مدحت الحاج سري أمين العاصمة
وفي الوقت نفسه الذي كنت اعمل فيه بكل نشاط في اعمال المكتب الاستشاري للأبنية صباحا، واشارك شقيقي قحطان بأعمال دار العمارة مساء، اتصل بي صديقي المهندس رشيد الدبيسي، واخبرني ان امين العاصمة السيد مدحت الحاج سري يريد اللقاء بي للتحدث حول مدينة بغداد.
زرت امين العاصمة، وبعد كلمات المجاملة والترحيب، جرى الحديث عن مدينة بغداد وسبل تطويرها. غير ان الامين في نهاية اللقاء طلب ان التحق بأمانة العاصمة لا تسلم منصب رئيس الهيئة الفنية، وهي اهم هيئات الامانة يومئذ. كما ان وزير البلديات زميلي الاستاذ احسان شيرزاد طلبني هو الاخر لزيارته للتحدث في الموضوع نفسه. وعند لقائي به ذكر انه ترك مكتبه ( الاستشاري العراقي ) لتكليفه بمنصب وزير البلديات ، فطلب مني ان اترك العمل في مكتبي واتفرغ لأعمل رئيسا للهيئة الفنية في امانة العاصمة .
بقيت في حيرة من امري .. هل اترك اعمالي والتحق بأمانة العاصمة؟ ام ارفض الطلب؟ بحثت الامر مع شقيقي قحطان ، فاستقر رأيي على قبول الوظيفة خدمة لمدينتي بغداد ، على ان اعمل في مكتب ( دار العمارة ) مساء .
بعد موافقتي على طلب مدحت الحاج سري للالتحاق بأمانة العاصمة في حزيران 1967 رئيسا للهيئة الفنية ، وهي اكبر وظيفة فنية في امانة العاصمة التي كانت تابعة لوزارة البلديات يومذاك . تسلمت من الدكتور نعمان الجليلي اعمال الهيئة بعد تعيينه مديرا عاماً للتخطيط العمراني.
كانت امانة العاصمة المسؤولة عن جميع الخدمات البلدية لمدينة بغداد التي تبلغ حدودها زهاء 600 كيلو مترا مربعا آنئذٍ ، وكانت مساحة الرقعة المشيدة منها نحو 100 كم مربع ، ونفوسها كانت بحدود 3,5 مليون نسمة . ولم يكن لهذه المدينة تخطيط حضري متكامل ، بل كانت شركة ( بول سيرفس ) الاستشارية البولونية التي باشرت منذ فترة تعمل لوضع الجوانب التكميلية لذلك التخطيط ، فضلا عن مهماتها الاستشارية في الوقت نفسه . والواقع ان المشكلات البلدية في مدينة بغداد ، كانت كبيرة ومتشعبة ، فالخدمات بدائية والبنى التحتية مهترئة و الشعور بالالتزامات الحضرية لدى المواطنين متخلفة . فكان عليّ ان اواجه المشكلات الفنية ، واقرر الحلول لها . بالإضافة الى ادارة المشاريع الجارية وتوجيهها ، والمسؤوليات الادارية المختلفة .
كانت الموارد المالية لأمانة العاصمة تتحقق من مصدرين رئيسين : اولهما الرسوم والضرائب التي تجبى من النشاطات البلدية المختلفة ، والثاني من التخصيصات المالية من الموازنة العامة للدولة التي تصرف على مشاريع محددة . ولم تكن الامانة تحظى بالتخصيصات المالية الكافية لإنشاء شبكات الخدمات الكاملة . لقد كان الصراع محتدما بين المواطنين وامانة العاصمة ووحداتها ، ولاسيما في اطراف المدينة . المواطن كان ـ وما يزال ـ يطالب بحقوقه الخدمية من الشوارع والطرق والمجاري والماء والكهرباء والهاتف ، في الوقت نفسه الذي يتجاهل فيه ما عليه من التزامات وواجبات .
والحقيقة، ان مشاريع الطرق لم تتعد تبليط شبكات الشوارع ، وما يلحقها من شبكات مياه الامطار في الاحياء القديمة لبغداد ، وبعض الاحياء في التوسعات الجديدة . اما مجال الابنية ، فقد كانت الامانة تقوم بإنشاء ابنية بسيطة ، مثل دور الارامل وبعض الاسواق الشعبية ودورات المياه العامة في مركز المدينة . غير ان اصعب المشاكل التي كنا نواجهها ، كانت مشاكل الاراضي وافرازها للأحياء السكنية الجديدة ، وتقاطعها مع المتطلبات التخطيطية للمدينة ، التي لم تكن محسومة قانونيا بشكل نهائي . اما الابنية الخاصة ، وخاصة في مركز المدينة ، فكانت اشكالية اخرى ، بعد ان تقسمت الملكيات ، واصبحت مشاعة بين العديد من افراد العائلة الواحدة . اضافة الى الاستغلال الاقتصادي واعادة الاعمار وما يصاحب ذلك من فوضى. امانة العاصمة تطالب دوما بالإبقاء على الجانب التراثي للمدينة، فتمنع اعطاء اجازات البناء للحيلولة دون اندثار هذا الجانب ، لكن هذا يجري بدون وجود خطط واضحة عن كيفية الحفاظ على الجانب المعماري التراثي في بغداد .
الجلوس : رئيس غرفة تجارة بغداد ومدحت الحاج سري ومدير الاثار العام وعبدالله احسان والكيلاني
والواقف من اليمين :سكرتير المجلس عبد الخالق وممثل وزارة التخطيط عدنان العلوي، محمد الراضي ، هشام المدفعي , شاكر السعدي ، حميد الشماع ، العاني ، خليل الالوسي .

تضم مدينة بغداد الكثير من الابنية والابنية التراثية والاسواق القديمة . ولكن لا توجد حلول مناسبة للحفاظ عليها او تطويرها ، بما يلائم تطلعات امانة العاصمة او المواطنين على حد سواء . كما لا توجد خبرات كافية في هذا الجانب . وكنا نشعر بأهمية ايجاد الحلول الكفيلة لحل هذه الاشكالية . فقد خسرنا عددا كبيرا من تلك الابنية التراثية لعدم معرفتنا التوازن بين الحفاظ على التراث وضمان المصالح الشخصية . وكنا ننتظر اكمال اعمال تخطيط بغداد لعلها تجد الحلول السحرية لمشاكل الامانة الجسيمة.
ولم تكن الملاكات الفنية والهندسية في امانة العاصمة بالكفاءة الكاملة والكافية ، ولا يوجد من ذوي الكفاءة والخبرة الا العدد القليل . ولم تكن هناك اي شعبة او دائرة في الامانة تعني بالتراث البغدادي .

غرق بغداد 1968
لم توجد في دوائر امانة العاصمة سوى شعبة صغيرة تشرف على اعمال مجاري مياه الامطار. اما مصلحة المجاري فقد كانت غير مرتبطة بأمانة العاصمة، بل كانت دائرة متخصصة، ومدينة بغداد جزء من اعمالها . وهكذا مع دوائر الماء الكهرباء والهاتف. والتنسيق معدوم تقريبا بين هذه الدوائر، ومعظم عملها منصب على صيانة الشبكات والاعمال الصغيرة والتكميلية والمستجدة .
وهنا اذكر ما جرى في منتصف شهر مايس 1968 ، عندما هطلت على بغداد امطار غزيرة وبشكل غير اعتيادي لم يعرف من سنوات . فقد استمر هطول الامطار الغزيرة لساعات طويلة ، ولم تكن بغداد مهيأة لهذه الامطار الهائلة ، فضلا عن عدم وجود اي شبكة تصريف في الكثير من احيائها . وهكذا غرقت مناطق عديدة من بغداد القديمة والجديدة . ولم يلتحق الكثير من عمال الامانة وموظفيها بأعمالهم . لذا قام امين العاصمة بإصدار نداء عاجل الى جميع العاملين في الدوائر الخدمية من موظفي الدولة ، واصحاب الاعمال الخدمية الاهلية كالخبازين وسواهم الى الالتحاق بأعمالهم للمساهمة في عمليات الانقاذ وتوفير الخدمات للمواطنين في المناطق التي غمرتها المياه . فقد غمرت المياه جميع الاحياء السكنية الواقعة شرق قناة الجيش في الجانب الشرقي من بغداد ، واضطر الاهالي الى الصعود الى الطابق الثاني من منازلهم ، اذ كانت المياه تنحدر من مناطق مختلفة تمتد باتجاه نهر دجله من خان بني سعد على طريق بعقوبة القديم وحتى قناة الجيش . كما غمرت المياه المحلات القديمة الواطئة في مركز بغداد من الباب المعظم وحتى الباب الشرقي . اما في الجانب الغربي من بغداد ( الكرخ ) فقد غمرت المياه معظم المناطق والاحياء الواقعة غرب شارع 14 رمضان ، وعددا من المحلات القديمة المنخفضة .
شكلنا مكاتب للطوارئ لتسلم شكاوى الاستغاثة من المواطنين، وتوجيه العاملين لعمليات الانقاذ والاخلاء. وقد عُهدت اليّ مسؤولية مركز طوارئ الرصافة ومقره في دائرة اطفاء الشيخ عمر ، اضافة الى عملي الرئيس . واتذكر عند تجولي مع امين العاصمة في حي الخارجية في منطقة الداوودي بالكرخ، كيف كان الماء يغمر شارع الخارجية الموازي في حي الداوودي الى شارع 14 رمضان بارتفاع نحو 30 سنتمترا حتى دخل الى داخل السيارات والدور ، واضطر احد المواطنين الى التجول في المنطقة بزورق صغير . وفي يوم آخر تجولت مع السيد الامين قريبا من منطقة شرق القناة ونحن على طريق قناة الجيش ، فلاحظنا ان حي جميلة كان مغمورا بالمياه تماما ، وقد صعد سكان الدور القليلة التي شيدت يومذاك الى السطوح ، وهم يلوحون بأيديهم وينادون طلبا لإنقاذهم .
اخبرَنا مدير الوحدة المسؤول عن المنطقة انه سيتم التخلص من المياه خلال ثلاثة ايام من تلك المنطقة التي تبلغ مساحتها زهاء 20كم2، لأنه امر بتشغيل ثلاث مضخات مياه بقطر 4 انجات للواحدة .. لم اتقبل حديث هذا المسؤول وتفاؤله ، لان كمية المياه في مناطق شرقي القناة كانت اكبر من هذا الحل . لقد كان شارع قناة الجيش حاجزا يمنع تسرب المياه الى القناة ، فأمرت بفتح ثغرات بعرض مترين لكل ثغرة ، وعلى مسافة كيلومتر بين ثغرة واخرى لتفريغ المياه في القناة والتخلص منها . وقد بقيت هذه الثغرات تفرغ المياه لمدة شهر تقريبا . عملت وعلى مدى اسبوعين كاملين ليلا ونهارا مع كوادر الامانة جميعا والدفاع المدني والجهات المعنية الاخرى ، لإزالة اثار الامطار وسحب المياه من مناطق تجمعها وانقاذ سكان المناطق المتضررة .
ان هذه التجربة القاسية ، اشعرت الجميع بأهمية وجود شبكة كاملة لمياه الامطار في بغداد . ولماذا لاتتوفر للعاصمة شبكة لتصريف مياه الامطار ؟ ولا توجد شبكة لمجاري المياه القذرة ؟ ولا شبكة طرق تغطي حاجة المواطنين . كما ان عددا من الاحياء لم تصلها شبكة مياه الشرب . والواقع انه لا يوجد لديّ الا جواب واحد ، وهو ان تخصيصات الدولة من موازنتها والنظام الضريبي لسكان العاصمة ، لا يستندان الى الحقائق ومتطلبات المواطنين من الخدمات بصورة حقيقية .
****
معمل معالجة النفايات لإنتاج الاسمدة العضوية
قرر مجلس الوزراء ايفادي الى فرنسا مع مهندس آخر من امانة العاصمة وممثل شركة عاملة مع الامانة ( الشركة الفرنسية المعروفة وهي «بونتاموسو» ) ، للاطلاع على معمل توظيب النفايات المقترح شراؤه لخدمة مدينة بغداد . وهو واحد من ثلاثة معامل مقترحة لإنشائها في بغداد ، وهو يعمل بثلث الطاقة ، لما يخرج من بغداد من نفايات تقدر بـ (2000 طن ) يوميا في حينه , اي ان المعمل يعمل ويعالج زهاء (700) طن من النفايات المنزلية لتحويلها الى اسمدة عضوية (Compot) للاستفادة منها في مدينة بغداد .
زرت فرنسا مع وفد برئاستي وعضوية المهندس كمال وممثل المقاول كليمان شماس ، واطلعت على معامل مماثلة وتعمل وفق اسس تختلف عن العمل المتفق عليه . وزرت مدنا عديدة في فرنسا لدراسة اساليب جمع النفايات ونقلها خارج المدن .شاهدت عمليات جمع النفايات بشكل واضح ، حيث تجمع من المناطق المختلفة بواسطة السيارات او آليات تنسجم احجامها مع طبيعة الشوارع والأزقة . ففي أزقة الأحياء القديمة في المدن تستعمل آليات يدوية لجمع النفايات . اما في الطرق الاوسع والاكبر فتستعمل آليات اكبر واكثر تطورا . وتجمع النفايات في منطقة تجميع في كل قطاع ، ومنها الى مناطق تجميع اكبر ، في معامل التوظيب .
ولاحظنا ان جميع المكائن والمعدات في عمليات جمع النفايات ونقلها ، قد كيفت لتنسجم مع متطلبات العمل في المدينة او شوارعها بشكل متكامل. وان كانت هذه العمليات تكميلية الا انها مفيدة بشكل كبير ، فهناك ـ على سبيل المثال ـ معدات مكيفة لغسل اضويه اشارات المرور ، واخرى لغسل الاعمدة الكهربائية ، واخرى لكنس الأرصفة وغسلها .
كان المعمل المقرر شراؤه من فرنسا ، يعمل على فرز النفايات ، واخراج المواد المطاطية والزجاجية والمعدنية كل على حدة . ولاحتواء النفايات في بغداد على نحو 40 بالمئة من حجمها على قشور الرقي والبطيخ في فصل الصيف ، وهذه تحتوي نسبة كبيرة من الماء ، فان المصمم قد صنع براميل افقية مثقبة تعمل بشكل دائري ، وتدور بسرعة كبيرة للتخلص من الماء في النفايات . بعدئذ تنشر النفايات العضوية بأكوام لمايقارب 600 طن لكل يوم على شكل دائري وتجمع على شكل هرمي . وعلى مدى 21 يوما تتفسخ النفايات وتتكون منها مادة (الـ compote ) او السماد العضوي . وجدت ان هذه الطريقة مفيدة للتخلص من النفايات اولا ، والحصول على اسمدة عضوية لأغراض الزراعة ثانيا .
قدمت تقريري عن المعمل وكفاءته، واساليب جمع النفايات وطرق التخلص منها وحاجة مدينتنا لمعامل مثل هذا. فأحيلت اعمال المقاولة على الشركة نفسها. وقد استفادت مدينة بغداد لفترة طويلة من هذا المشروع. الا انه توقف عن العمل في السنين الاخيرة لعدم توفير الادوات الاحتياطية لمكائنه ومعداته، وعدم تقبل فكرة متطورة لمعالجة النفايات والاستفادة منها. وبقيت مدينة بغداد مكتفية بأعمال الطمر الصحي للنفايات.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة