التنمية.. مو شغلتهم

كنت وغير القليل من الأصدقاء والرفاق زمن المنافي والغربة عن الوطن، مسكونين بلحظة زوال النظام المباد، وبالتالي العودة للوطن من أجل وضع قسطنا المتواضع لخدمته وإعادة بناء العراق الجديد، على أساس وطيد من التنمية الشاملة في جميع الحقول الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والسياسية. كنا ندرك جيداً الطبيعة العدوانية والهمجية للنظام المباد، وقدرته على تحويل تهديداته بتسليم العراق حطاماً وأنقاضاً لمن يأتي بعده، وهذا ما حصل تماماً ربيع العام 2003 حيث كان حطام البشر أعظم وأشد فتكاً من ركام المدن والحجر وبقية الفواتير والديون الهائلة التي خلفها بعد ظهور شبح أول دبابة على أحد جسور بغداد. كنت مطلعاً تماماً على العيوب البنيوية لما يسمى بـ “المعارضة العراقية” من شتى الرطانات والعقائد والهلوسات، وهذا ما تطرقت اليه لمن التقيتهم بعد العودة للوطن نهاية العام 2003، حيث حذّرت من التعويل عليهم في مشروع بناء العراق الجديد، فمن يفشل ويعجز عن تأسيس معارضة فاعلة ومتماسكة لا يمكنه النهوض بمهمة انتشال العراق من وسط كل هذه الخرائب والأنقاض، وهذا ما حصل تماماً، بعد أن جرونا بعيداً عن تلك المشاريع التي هدهدناها طويلاً زمن المنافي.
في لقاء حطام البشر ومؤسسات الدولة وفلول النظام المباد مع محظوظي الخارج وسكراب معارضته، من أشباه الأحزاب والتنظيمات السياسية، حصلنا على هذا الحصاد المر، والمتواصل الحلقات منذ أكثر من 14 عاماً على “التغيير”. لا نحتاج لأن نواصل اجترار تذمرنا وشكوانا وعويلنا على هذه القسمة العاثرة؛ لأن هذه القوى جميعها من فلول النظام المباد الى من تلقف أسلاب الغنيمة الأزلية منهم؛ تقبع في قعر أولوياتهم مهمة إعادة بناء العراق، وباختصار لأن “التنمية مو شغلتهم” فهم جميعاً لهم أولوياتهم وتطلعاتهم التي تعرفنا عليها زمن النظام المباد وبعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين. كما أن عفن المنافي وطول مدتها (تجاوزت الربع قرن) قد تركت آثارها العميقة على تلك القوى، وتحولت غالبيتها الى هياكل لا حول ولا قوة لها (أمرها مو بيدها) وهذا ما تجلى في نهجها وقراراتها وسياساتها بعد تسلّمها لمقاليد الأمور في هذا الوطن المنكوب.
ما الذي نشاهده اليوم؛ غير النزاع العبثي للاستيلاء على المزيد من أسلاب الغنيمة، والسبل والذرائع المتجددة والمبتكرة لإعاقة بعضهم البعض الآخر، فممثلي المكون (س) يكرسون كل مواهبهم وقدراتهم وحلفاءهم الإقليمين والدوليين من أجل إعاقة أي مشروع يتعهد به ممثلي المكون (ص) وممثلي المكون (ع) يراقب النزاع ليجهز على أحد أطرافه وفقاً للبراغماتية الرثة التي يتبعها وهكذا مع بقية فرسان ونجوم المكونات والمربعات والكانتونات القاتلة. والنتيجة استنزاف ما تبقى من قوى حيوية وإمكانات وطنية في إشعال المزيد من المحارق والمهالك، بعيداً عن التطلعات المشروعة للعراقيين جميعاً من شتى الرطانات والمربعات والأزياء، في العيش كبقية الأمم التي أكرمتها جبهات التنمية والبناء والخلق والإبداع، بشروط الحياة والتشريعات والحقوق والحريات، التي جعلت مئات الألوف من بنات وأبناء هذا الوطن القديم، يلقون بأنفسهم الى جوف المحيطات الهائلة والتضاريس الغريبة كي يصلوا الى ضفاف تلك الحقوق المهدورة في وطنهم الأم. من دون ظهور قوى ووعي وتشريعات تضع حدا لتغول أحزاب وكتل الهموم القاتلة، وتشرع الأبواب أمام قوى وتنظيمات لا تاج يكللها ولا خطوط حمر لها؛ سوى التنمية والبناء وكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته؛ لن تقوم قائمة لسكان أقدم الأوطان..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة